"الثابت والمتغيّر في مفهوم السيادة"

22 تشرين الأول 2022 10:03:10

لقد قلصت التقْنيات المعرفية والبنى التواصلية  مفهوم السيادة عند الدول والجماعات وقوضت من حجمها وأسقطت حدود ضوابطها الصارمة.

وارتدت القوميات الى ذواتها  مثقلة بالثقافات الوافدة، تعتريها التقلبات المتسارعة  على مستوى الإنسان. اذْ تعرض خلال المئة سنة الفائتة الى تسارع معرفي هائل، وتغيّر بنوي إدراكي شامل، وتشكل وجودي حديث لم تعرفه البشرية قبلا، منذ ان دوّنت اول علامات التأريخ على بلاطات المعرفة رسوما وأشكالا   وحروفاً ونصوصا.

لقد ابطأ الدفق المعرفي الوافد عند المجتمعات الإنسانية كافة من غلو الاخلاقيات العامة والخاصة وشذب مثالياتها، وبدّل بشكل كلي من مفاهيم القيم وأنماط السلوك  ولجم  من مساحة السمو والمجاملات التي استقرت عليها بفعل التآكل الزمني، اكان بالقوة والعنوة والعنف، او بالركون المتسم  ظاهرا بالقبول الجماعي او الرضى الفردي، وكلها نتاج  خليط من غوغائيات الفرض المستعين بادوات القهر والقسر، والموروثات الاجتماعية  والترث الثقافية المستندة في اعم  الأحيان على العناصر  القبلية والدينية والعرقية والفوارق اللغوية المنحازة  أصلا الي العصبية الجماعية على أساسي المكان والزمان.

إذا المعرفة عامةً غيرت من تسيّد الجماعة وبدلت من ذوبان الفرد، الأولى فقدت سمة الإطلاق والكمال، والثانية عززت من حضور الكائن الفردي انضباطا او تفلتا. فغدت الدول مشرعة الحدود بفعل عامل التجاوز الجغرافي والمكاني ويسرة الانسياب  وسهولته والوغول والدخول والتأثر.
حتى ان السيادة أصبحت نسبية محدودة الاطراف وفق عوامل القوة التقنية والمقدرة على تصنيعها وحسن استخدمها، وتبدل المسلمات وضمور حضورها والتراجع من سطوة   الثوابت، وانضواء السلطة الى الحاجة الملحة لاستخدام القوة التقنية وانتاجها، وإلا الوقوع تحت ثقل التبعية في استيراد هذا التقنية من اجل استخدامها والاستفادة من مواردها...

والسيادة ليست ذات منحى سياسي او ثِقَلٍ قانوني فحسب وليست اطارا جغرافيا رهين  الحدود تحبسه الأمكنة، هي انبعاث فكري وثقافي أيضا يتمدد فوق ذلك كله وينحسر دون ذلك  على وقع الظروف المتقلبة، الثابت الوحيد فيها ان لاشيء ثابتا. ولعل لبعض الدول خصوصيات الخصوصيات  كالتركيبة الاجتماعية والدينية والحوادث التاريخية والمواقع الجغرافية، فضلا عن الطبيعة البشرية المتشابهة في نواحي التفكير واستعارة الأساليب بالرغم من التناقضات الحادة بينها، فالسيادة وليدة ذلك كله تتبدل وتنزوي في اعتى الإمبراطوريات والدول ولم تعد  هناك من دولة واحدة ذات سيادة مطلقة او مترامية الحدود بفعل تمدد الجماعات وتقلصها حسب المصالح والحاجات.   

غير أن السيادة في لبنان تنفرد في تقمص جماعاته شعاراتٍ وبيارق في غزوات الردة والمزايدات وانتحال كل منا صفة تتبع موصوفها، لا اختلاف ان السيادة هي ذات مفاهيم متعددة ومعان  شديدة التناقض لا تستقر على أي من انواع الخطوط و الزاويا، حادة او منفرجة، و لا تستقيم على مدار  واحد ولا تلتقي على بنوّة ذات انتماء في أصل حسَبِها ونسبها، فهي قد تكون مطلقة فوق أي اعتبار وطني وإقليمي، وهي قد تغدو اسيرة مقيدة بدونيتها تحت وطأة الطوائف التي يسّعر جذوتها سدنة بيوت نيرانها كأنهم التوابون يرسمون للالهة اتباعا من شك وظن.    


ولا ضير إذا أدهشتنا حال اللبناني الذي انهكته حروب النكايات والمناكفات المترامية الاشتعال وصراعاتها الغارقة في تفاصيل المكونات، وهي التى أحالته مرة جنديا صليبيا في حروب الرومان، ومرة اخرى، فارسا جهاديا اسلاميا في فتوحات أهل الثغور، هذا   اللبناني الفرد المعتدّ بذاته ونرجسيته تسْكره مرايا ألانا ويلوذ الى جماعته  من دون ان ينضوي تحت سقف العمل العام  "المؤسساتي"، او يندمج  به ما لم يؤخذ  بالحسبان الانتماء الطائفي   فتعود السيادة عندنا رهينة المحبس الاول هذا على غير ما ذهب اليه الفيلسوف والقانوني الفرنسي  جون بودان Jean Bodin الذي اعتبر الدولة كيانا مجردا يرسي ماهية السيادة ومفهومها، واناطها مطلقةً بالملك من دون سلطتي  الكنيسة والاقطاع.