في ذكرى السابع عشر من تشرين، تتزاحم الأسئلة المرتبطة بطبيعة الحقبة التي تلت تلك الانتفاضة الشعبيّة، والمآلات التي انتهت إليها مسارات الحركة التغييريّة التي عبّرت عن نفسها في الاستحقاق النيابي الأخير من خلال اختراق مجموعة من النواب اللوائح المنافسة في عدد من المناطق اللبنانيّة المختلفة.
لا شك بأن التحركات الإحتجاجيّة الشعبيّة كانت مفهومة ومشروعة على ضوء التردي الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي غير المسبوق وهي كانت بمثابة صرخة إعتراض في لحظة عفويّة سرعان ما توسعت مناطقيّاً وزمنيّاً وأفقيّاً واستقطبت شرائح واسعة من اللبنانيين الغاضبين والصامتين الذين كانوا يأملون حقاً بالتغيير.
إلا أن هذا المسار سرعان ما قاد البلاد إلى مكان آخر وذلك عطفاً على المشاكل المتراكمة والمتوارثة التي انفجرت دفعة واحدة وأدّت إلى الانهيار الكبير الذي لا تزال تداعياته تتواصل بصورة دراماتيكيّة نتيجة غياب السياسات الاقتصاديّة والماليّة العلاجيّة المطلوبة.
الهدف الآن ليس إعادة إستعراض الوقائع السياسيّة والميدانيّة لحقبة لا تزال ماثلة في أذهان اللبنانيين بقدر ما يتصل بالإجابة عن سؤال جوهري: هل لبنان فعلاً عصي على الإصلاح؟ وهل هي مجرد مصادفات تاريخيّة وسياسيّة ألا يتحقق الحد الأدنى من الخطوات الإصلاحيّة على مدى عقود متلاحقة ومنذ الاستقلال لغاية اليوم (مع استثناءات مهمة، إنما غير كافية، شهدتها حقبة الرئيس فؤاد شهاب)؟
لعل قواعد توزّع النفوذ السياسي بين مجموعات حزبيّة (لا تخلو حتماً من التركيبة الطائفيّة والمذهبيّة) بشكل أفقي هو ما يجعل من عمليّة «التغيير الثوري» مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد. ليس النظام اللبناني يماثل الأنظمة الديكتاتوريّة التقليديّة التي شهدت ثورات شعبيّة هادرة حيث أدّى إسقاط رأس النظام إلى إنهيار المنظومة السياسيّة بكاملها.
لقد حدثت ثورات عديدة في العديد من البلدان العربيّة خلال السنوات القليلة المنصرمة وحصلت تغييرات سياسيّة جوهريّة فيها بمجرّد سقوط رئيس الجمهوريّة أو القائد الأعلى. الأمر مختلف تماماً في لبنان.
إن توزّع مراكز القوى على عدد من الأطراف السياسيّة يجعل الحاجة إلى التغيير تنطلق من مقاربات مختلفة، تحديداً من خلال المؤسسات والانتخابات، والهدف بطبيعة الحال ليس التعرّض لحق التظاهر والتعبير الذي يبقى إحدى الركائز القليلة المتبقية من الديمقراطيّة اللبنانيّة الهشة والمتعثرة. ولكن الهدف تشخيص مسارات التغيير الحقيقيّة في ظل التركيبة اللبنانيّة الراهنة.
في نهاية المطاف، لا يمكن أن تبقى الأمور على حالها إلى الأبد في لبنان. نقطة الإنطلاق تبدأ من الإعتراف بالحاجة إلى التغيير الحقيقي، وهذه المسؤوليّة تنطبق على القوى السياسيّة التقليديّة والحديثة على حد سواء.
أما النقطة الثانية والأهم، فهي تتعلق تحديداً بسلوك القوى التي اختارت لنفسها اسم القوى «التغييريّة» والتي يقع على عاتقها أن تجري قراءة دقيقة وواقعيّة لطبيعة التركيبة اللبنانيّة وسبل إحداث الخرق الإصلاحي التدريجي فيها، وهذا لا يكون حتماً بمواصلة سياسة الرفض المطلق للعمل مع القوى الأخرى الحيّة التي لا يمكنها أن تزايد عليها وطنيّاً وسياديّاً وديمقراطيّاً.
لقد لعبت تلك الأطراف أدواراً سياسيّة هامة في اللحظات المفصليّة خلال السنوات الماضية والتي أدّت، في ما أدّت إليه، لتحقيق الانسحاب العسكري السوري الكامل من لبنان وقيام المحكمة الدوليّة والحفاظ على الطابع الديمقراطي للنظام اللبناني رغم كل المساعي المنهجيّة التي بذلتها قوى أخرى للانقضاض على الصيغة اللبنانيّة بتعدديتها وانفتاحها وتنوعها.
الإستحقاق السياسي الأقرب هو رئاسة الجمهوريّة، وهو معبر هام للبدء بتحقيق التغيير المنتظر طبعاً إذا اختيرت شخصيّة وطنيّة على قدر من الوعي والمسؤوليّة يمكن العبور معها نحو حقبة جديدة على كل المستويات.