لا يختلف إثنان، أو هكذا يُفترض، على أنّ إنجاز ترسيم الحدود البحرية تمّ في لحظة تقاطع مصالح دولية نادرة، ساهمت في الوصول إلى الاتفاق. لكن، ما هو مُقلق، انّ أصواتاً بدأت ترتفع، وغالبيتها من خط سياسي يصبّ في مكان واحد، تروّج لفكرة انّ لبنان، ومع وجود الثروة الغازية، لم يعد يحتاج إلى الاتفاق مع صندوق النقد للحصول على 3 مليارات دولار في فترة 4 سنوات.
لا شك في انّ الثروة الغازية، وبصرف النظر عن حجمها المالي، (التقديرات تختلف بشكل كبير وتتراوح بين 100 مليار وصولاً الى تريليون دولار) وعن توقيت بدء الانتاج والإفادة من المداخيل، فإنّها تشكّل في حدّ ذاتها ورقة رابحة للبنانيين. وهي تأتي، في ظروف استثنائية أصبحت معها مادة الغاز سلعة استراتيجية حيوية، وستبقى كذلك، وفق الدراسات، لسنوات طويلة إلى الامام، تمتد على مدى عقدين أو ثلاثة. وقد ارتفعت اسعار الغاز، والتي يوجد مؤشرات عالمية خاصة لقياسها، ترتبط بما يُعرف بالوحدات الحرارية، الى مستويات قياسية. ولإعطاء فكرة عن نسبة الارتفاع، كانت اسعار الغاز الطبيعي الأوروبية قبل حوالى سنتين، تتراوح حول الـ 10 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، لكن في العام 2022، وصلت إلى 100 دولار لكل مليون وحدة حرارية، أي ما يعادل 580 دولاراً لبرميل النفط الخام.
هذا الواقع لا يعني انّ البلد يستطيع ان ينهض اقتصادياً من دون التعاون مع صندوق النقد، لاعتبارات عدة، ليس أقلّها الرقابة التي يمارسها الصندوق في موضوع تنفيذ الاصلاحات المطلوبة. والثقة التي يساهم في إعادتها بالنسبة إلى نظرة الاسواق العالمية إلى الوضع اللبناني، بالاضافة طبعاً الى الضمانات القادر على اعطائها والتي تساعد في تسريع عودة لبنان إلى الاسواق العالمية. ومن دون هذه العودة، لا نجاح لأية خطط إنقاذ.
هذه الحقائق التي يُفترض انّ الاطراف السياسية باتت تعرفها، تطرح علامات استفهام حول الاسباب التي تدفع البعض الى القفز فوق هذا الواقع، والمناداة بالإنقاذ من دون صندوق النقد. فما هي الاسباب الحقيقية التي تدفع هؤلاء الى محاولة عرقلة التعاون مع الصندوق؟
في الاعتبارات السابقة، كان يجري الحديث عن معارضة سياسية سببها عدم الرغبة في الخضوع لشروط اصلاحية موجعة شعبياً. مثال على ذلك، رفع تعرفة الخدمات مثل الكهرباء وسواها، خفض حجم القطاع العام، وقف تثبيت سعر الليرة على الدولار، مكافحة التهرّب الضريبي والتهريب...
هذه الشروط الاصلاحية يُفترض انّها لم تعد مرعبة إلى هذا الحدّ، على اعتبار انّها صارت وراءنا. تعرفة الكهرباء جرى رفعها، ولو انّ بدء التنفيذ قد يتأخّر قليلاً، القطاع العام، وبسبب انهيار قيمة الليرة، لم يعد يشكّل عائقاً حقيقياً امام التوازن في المالية العامة. الليرة انهارت، والكل يعترف بأنّ سعر الليرة الحقيقي قائم في السوق الحرة، وموضوع التهرّب الضريبي، لا يُفترض ان يكون موضع اعتراض.
إذا اعتبرنا انّ البنود الاصلاحية لم تعد تشكّل سبباً صالحاً لتبرير الاعتراض، فما هي الاعتبارات المتبقية؟
في الأساس، كان يُقال انّ بعض الاطراف السياسية لا تحبّذ صندوق النقد حرصاً على السيادة. ولأنّ هذه الاطراف، تعتبر انّ الولايات المتحدة هي المسيطر الرئيسي على الصندوق، وبالتالي، قد تُمسّ السيادة ضمن هذه المعادلة. لكن هذه النقطة ايضاً، صارت غير ذي شأن، بدليل الدور الوسيط والراعي والضامن الذي لعبته واشنطن، في إنجاز اتفاقية الترسيم البحري.
ماذا يبقى اذاً من أسباب حقيقية لمحاولات البعض الترويج لعدم ضرورة الاتفاق مع الصندوق، والادعاء انّ الثروة الغازية التي سيتمّ استخراجها هي البديل؟
في الواقع، يبدو انّ المشكلة الحقيقية لا تتعلق بوصاية صندوق النقد، ولا بالدور الأميركي المحتمل من خلال الصندوق، بل بالدور المطلوب ان تقوم به دول الخليج العربي في مواكبة الاتفاق مع الصندوق، وفي تمويل المشاريع ما بعد الاتفاق. إذ انّ الاطراف اللبنانية المعارضة ضمناً أو علناً للتعامل مع المؤسسات المالية الدولية، كانت تراقب عن كثب المعلومات التي كان يجري بثها لجهة حجم الاموال الخليجية التي قد يتمّ استثمارها في لبنان، في حال تمّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ولم يكن الأمر سراً، إذ انّ مسؤولي الصندوق كانوا يؤكّدون انّ الاعتماد ليس على الـ3 مليارات دولار التي سيقدّمونها خلال 4 سنوات، بل على حوالى 12 مليار دولار قد يتم ضخّها في الاقتصاد اللبناني من قِبل الدول المانحة الداعمة للبنان. وكان معروفاً انّ الجزء الاكبر من هذه الأموال سيأتي من الخليج، ومن المملكة العربية السعودية بشكل خاص. وبالتالي، كان معروفاً انّ هذه «العودة» الخليجية القوية إلى لبنان، هي ما يُقلق المعترضين على صندوق النقد. لكنهم خفّفوا معارضتهم العلنية قليلاً، خوفاً من النقمة الشعبية في فترة ما بعد الانهيار. اليوم، استفادوا من الترسيم، ومن قرب بدء التنقيب، لمحاولة الانقضاض مجدداً على نهج التعاون مع صندوق النقد، قطعاً للطريق امام العودة العربية إلى الساحة اللبنانية.
هل تنجح هذه الاعتراضات في وقف مسار الاتفاق مع صندوق النقد؟
تصعب الاجابة عن السؤال، لكن مراقبة التطورات قد تعطي مؤشراً إلى ذلك. إذ انّ المسؤولين، تعهّدوا بعيداً من الإعلام لمسؤولي صندوق النقد بتنفيذ البنود الاربعة المطلوبة لإنجاز الاتفاق النهائي قبل نهاية تشرين الثاني المقبل. وهذا يعني انّ مجلس النواب سيستمر في التشريع بعد انقضاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية في 31 تشرين الاول الجاري. فهل سيحصل هذا الامر؟ وهل سيتمّ اقرار قانوني الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف قبل الموعد المحدّد؟ في ضوء ما سيجري على هذا الصعيد، يمكن التكهّن بصورة أوضح في شأن مصير اتفاق الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي.