Advertise here

هكذا أرسى صفير مصالحة الجبل مع جنبلاط... محطات وذكريات!

17 أيار 2019 18:25:00 - آخر تحديث: 10 أيلول 2020 14:43:40

 

"البطل لا يموت"، ذلك ما يسري على الروايات وفي الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، إلاّ أنّها حقيقة دامغة تنسحب على غياب الكبير الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الذي سيبقى في ذاكرة اللبنانيين، بحيث جسّد تاريخًا متكاملاً وطنيًّا وسياديًّا واستقلاليًّا وقد يكون هو كتاب التاريخ بحدّ ذاته، ومن هنا عُلم أنّ أعدادًا كبيرة من أبناء الجبل سيودعون اليوم راعي مصالحتهم وحيث رُفعت اليافطات في معظم قرى وبلدات الجبل مشيدةً بمواقف الراحل الكبير البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، ناهيك عن ما عبّر عنه مناصرو ومحازبو الحزب التقدمي الاشتراكي على مواقع التواصل الاجتماعي من محبة لبطريرك المصالحة والسيادة.
أعتزّ بأنّ الله أنعم عليّ والتقيت به مرارًا وواكبته في محطات مفصلية ولاسيما مصالحة الجبل التاريخية، إذ كان إلى جانب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورؤساء أحزاب وشخصيات سياسية مستقلة، أبرز صانعي المصالحة. أذكر جيدًا يوم التقيت به في الصرح البطريركي في بكركي مع بعض الزملاء، وخلال الحديث عن الجبل وأحواله قال لي مبتسمًا: "شو كيف هالجيران عندكن"، فأجبته: "يا سيدنا لقد تعلمنا سويًّا ولي صداقات كما كل أبناء الجبل مع رفاق لنا في المدرسة"، وسمّيت له البلدات والقرى المجاورة لبلدتي، فبدا أنّه ملمّ بها ويحفظها عن ظهر قلب، وكم فرح عندما علم أنّ الأوضاع الأمنية مستتبة والتواصل والتلاقي عاد كما كان سابقًا بين الدروز والمسيحيين وسائر العائلات الروحية.
والحديث عن هذه القامة الروحية الوطنية الاستقلالية، يحتاج إلى مجلدات لما كان يتمتّع به من مقومات جعلته رجالات في رجل، فهو الناسك ورجل الدين ومن يدافع عن القضايا الوطنية والاستقلالية بصلابة ما بعدها صلابة، وهو الأديب والفقيه في اللغة، وفي أحد اللقاءات قلت له "سيدنا إنّي معجب بلغتكم العربية ومخارج الألفاظ"، فابتسم وقال "منيحة منيحة"، مستغرقًا في الضحك. فالبطريرك صفير سيذكره أبناء الجبل من الدروز والمسيحيين ومن كل الطوائف والمذاهب واللبنانيين بشكل عام لجهوده ودوره في الوصول إلى مصالحة الجبل، وسيذكرونه كيف واجه صعوبات وعقد لإزالة بعض العوائق، وذلك ما كان يقوله لبعض النواب في اللقاء الديمقراطي الذين واكبوا تلك المصالحة من خلال علاقاتهم الطيبة مع بكركي والمراجع السياسية وقربهم من رئيس الحزب الاشتراكي وفي طليعتهم النائب نعمة طعمة إلى الراحل النائب نبيل البستاني وسواهما، وينقل النواب عن البطريرك صفير في تلك المرحلة مواقفه الحادة التي كان يواجه بها بعض اللجان المكلّفة بالعودة قائلاً لهم "المصالحة ستتمّ ولن نتوقّف عند هذه المسألة وتلك"، صارخًا "خلصنا خلصنا بدنا نرجع متل ما كنا بالجبل"، فكان يتكلم باسم الدروز والمسيحيين وهو الذي عاش كل الأزمات والحروب وعلى بيّنة من كل المسائل والظروف التي كانت سائدة حينذاك وما أتى بعدها.
ومن الذكريات التي أوصلت سيد بكركي إلى المختارة وإعلان مصالحة الجبل، ما يتمثّل بالزيارة التاريخية يومذاك للقاء الديمقراطي إلى بكركي التي اتسمت بالود، حيث بدأت المصالحة تُنسج بين سيّدَي الصرح البطريركي والمختارة، وفي ذلك اليوم وصل جنبلاط إلى الصرح البطريركي في سيارة سوداء قديمة الصنع يقودها بنفسه فشاهدها البطريرك صفير حينما كان يودّع الوفد وقال: "شو هيدا شو هيدا"، مودّعًا جنبلاط بحرارة ومتمنّيًا له الصحة والتوفيق.
أمّا المحطة الأبرز والتي هي بمثابة ولادة وطن واستقلاله ويوم عيد وطني، فهي لا شك في الرابع من آب العام 2001، عندما توجّه موكب الراحل الكبير إلى المختارة لإعلان المصالحة التاريخية والتي هي دستور ووثيقة تاريخية وحقبة ناصعة من تاريخ لبنان وجبله، ففي باحة قصر المختارة في ذلك اليوم كان العرس الوطني عندما تمّت المصالحة التاريخية وسط حشد سياسي وشعبي وديني لن ينساه أهل الجبل واللبنانيين.
فهذه المصالحة هي صفحة مشعّة من كتاب البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، هذا الكتاب التاريخي والوطني والسيادي، فقد أرسى مصالحةً كانت بمثابة الحلم بعد أحداث مؤسفة وأليمة، إلاّ أنّه وبما يملكه من عزيمة وطول أناة وجرأة وباع طويل، استطاع أن يعيد المسيحيين إلى أرضهم وممتلكاتهم وأرزاقهم وإلى أهلهم من الدروز ومن كل الطوائف، زارعًا بسمةً غابت لسنوات وسنوات، ومن هنا لا يترك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مناسبةً إلاّ ويستذكر خلالها البطريرك صفير مشيدًا بدوره وعظمته.
ويبقى أنّ أهل الجبل سيتذكرون إنجازاته ووقفاته وبصماته وكل ما قام به لأجل هذه المصالحة، في حين لن ينسى كل مواطن لبناني شريف أنّ هذه القامة الوطنية أرست أيضًا الاستقلال الثاني وأنهت عهد الوصاية... 
وأخيرًا، أذكر أنّه في أحد اللقاءات معه قلت له: "لماذا لم نصل في لبنان إلى تجربة الرئيس القبرصي الراحل مكاريوس وتكون يا صاحب الغبطة رئيسًا لجمهورية لبنان؟"، فاستغرق في الضحك قائلاً: "أنا! البركة بالموجودين"، رافعًا يده... هو البطريرك صفير الذي لا يتكرّر، كما كان يقول أحد الزعماء السياسيين في مجالسه.