Advertise here

تلاقي الكبار

17 أيار 2019 14:06:00 - آخر تحديث: 17 أيار 2019 14:07:48

حمل الكاردينال الراحل البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في حياته الحافلة بالمحطات الكثير من الرسائل في أكثر من اتجاه، وكان همّه في ثباته على مبادئه وقناعاته وفي التزامه التام بها أن يبقى لبنان الوطن قائماً على فكرة وجوده المتميزة بالتنوع والتعددية والعيش الواحد، وعلى جوهره المبنيّ على الحريات والقيم الانسانية والانفتاح، وهو ما لم يعشه اللبنانيون عقوداً طويلة بفعل الحرب الأهلية التي شلّعتهم إرباً، وبفعل غياب الرؤية المتبصّرة لدى عدد ممّن تولوا العمل السياسي في أكثر من مرحلة من تاريخ لبنان الحديث.

وما إنْ وضعت الحرب أوزارها مع توقيع اتفاق الطائف، حتى وجد الكاردينال الراحل في ذلك فرصةً لإطلاق مسار جديد من العلاقات الداخلية بين أطياف الشعب اللبناني، فأعطى موافقته على الطائف ليفتح بذلك باباً أمام رؤيته قيام وطنٍ لكل أبنائه يحمي الجميع تحت سقف القانون والدولة ومؤسساتها. وما إنْ تحقق لاحقاً انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب حتى وجد البطريرك صفير الفرصة سانحة مرة أخرى لاستكمال المسار عينه، فأطلق نداءه الشهير عبر مجلس المطارنة الموارنة داعياً إلى تحقيق استقلال ناجز وكامل للبنان واستعادة سيادته من الوجود السوري. 

ولأنّ الكبار في الوطن وفي السياسة يفقهون لغة بعضهم البعض، ويدركون معاني الأمور ومرامي الأحداث ومقاصد الكلمات، كان تلاقي الزعيم الوطني وليد جنبلاط مع البطريرك صفير طبيعياً. 

فوليد جنبلاط الذي منذ استلم ثقل العمل السياسي، وبما حمله من إرث المعلم كمال جنبلاط وعِبَر التاريخ، كان يدرك أن الحلّ الوحيد لإنقاذ لبنان يقتضي إخراجه من كل السجون، عربيةً كانت أم أجنبية، وبإعادته وطناً بوتقة يعيش فيه جميع مواطنيه بفعل الانتماء الوطني قبل أي شيء آخر. وقد خاض جنبلاط ما خاضه من فصول الحرب الأليمة تحت عنوان هوية لبنان الوطنية والعربية والدفاع عن حقوق كل مكونات الطيف اللبناني دون استثناء. 

وانطلاقاً من هذه القناعة بادر جنبلاط حتى قبل انتهاء الحرب إلى إطلاق مسيرة عودة المهجرين الذين شردتهم المعارك، وانكبّ على هذا الملف بكل جهد ومتابعة وتصميم. وكان العين الساهرة على العيش المشترك في الجبل، وأطلق مروحة من الاتصالات أثمرت لاحقاً مصالحات مع القوى السياسية المسيحية. 

ومن إيمانهما المشترك ومن موقعيهما، تلاقى صفير وجنبلاط على استقلال لبنان وسيادته وكرامة أبنائه وثباتهم في أرضهم، فكانت مصالحة الجبل، ذلك الحدث المفصلي غير المسبوق في التاريخ اللبناني. وبهذا التلاقي فُتحت الطرق أمام تحقيق الاستقلال الثاني الذي تكرّس واقعاً بفعل تضحيات اللبنانيين واستشهاد ثلة من قياداتهم ورموزهم الوطنية.

ولأجل كل ما تقدّم، أتت مشاركة الحزب التقدمي الاشتراكي في يوم وداع الكاردينال صفير مهيبةً كبيرة بحجم هذه العلاقة وهذا التلاقي وهذه الرؤية. وحين دعا وليد جنبلاط إلى هذه المشاركة الواسعة التي استوقفت كل وسائل الإعلام والمراقبين والمتابعين والمحللين، إنما قصد القول إنّ تلك الرؤية الوطنية الجامعة للبنان التي نسجناها مع البطريرك صفير تتجلّى في أحد وجوهها بهذا الزحف الكبير من قرى الشوف وعاليه والمتن والإقليم وساحل الجبل والجنوب وحاصبيا وراشيا والبقاعين الغربي والأوسط وبيروت والشمال إلى يوم وداعه، وهي رؤية مستمرة لن تتغير. 

وفد "التقدمي" الذي ترأسه تيمور جنبلاط إلى مراسم تشييع البطريرك صفير، حمل كذلك رسالة لافتة تمثّلت بأن ضمّ الوفد رجال دين مسيحيين ومسلمين على السواء وحشداً شعبياً متنوعاً، لا من طائفة الموحدين الدروز وحسب، وهو ما بعث إشارات بالغة الدلالة في أكثر من اتجاه على مدى تجذّر المصالحة الوطنية في نفوس أبناء الجبل تحديداً، وبأن الزرع الذي زرعه وليد جنبلاط والبطريرك الراحل يثمر عيشاً مشتركاً كل يوم رغم كل المشوِّهين والحاقدين ونابشي الأحقاد، ورغم صعوبة الحياة بأوضاعها الاقتصادية والمعيشية في هذا الوطن.

وإذا كان هذا المشهد في يوم وداع صفير هو من باب الواجب والوفاء للراحل الكبير، بقدر ما هو ترسيخٌ لما أُنجز معه، فالوفاء الحقيقي يكون بالشراكة المستديمة مع كل الحريصين على رسالة الراحل البطريرك لتثبيت هذه الحياة الطبيعية ونقلها من جيلٍ إلى جيل فعلَ إيمان وممارسة يومية بوجه مروّجي الفتنة والحقد، وفي الوقت نفسه تحقيق تنمية متوازنة عادلة ونهضة اقتصادية في كل مناطق الجبل كما في الجنوب والبقاع والشمال، لتثبيت أبناء هذه المناطق في أرضهم وعدم السماح للوضع الاقتصادي المزري بتهجيرهم من جديد، فمعركة الإنماء هي التحدي الحقيقي القادم الذي يضع كل منجزات اللبنانيين على المحك أمام حجم المصاعب التي تواجه مالية البلاد ومؤسساتها وإداراتها واقتصادها. 

ولأنّ العبء كبير وثقيل والتحدي صعب وخطير، فإنّ التصدي لذلك يجب أن يكون بالمستوى نفسه، وهذا يتطلب تلاقٍ بين الكبار مجدداً لحماية لبنان في هذا الزمن الصعب. يدُ وليد جنبلاط ممدودة دائماً للشراكة الفاعلة، فليُلاقِه من تبقّى من الكبار.