Advertise here

إلى بكركي عاد بطريركها الدائم

17 أيار 2019 12:45:00 - آخر تحديث: 06 أيلول 2020 22:34:21

إلى بكركي عاد بطريركها الدائم مار نصرالله بطرس صفير، المكان الأحب إلى قلبه بعد قنوبين، ملجأ الموارنة زمن الاضطهاد، وريفون مسقط رأسه.

الصورة في مكانها
يوم "تقاعد"، وهو بكامل قواه العقلية، قال "نفضل أن نرحل وعقلنا معنا، على أن نرحل وقاد غادرنا". ونقل عنه كثر رغبته بالتقاعد في أحد الاديار للتأمل والصلاة، وبدأ يعد العدة للانتقال من الصرح البطريركي. وعملاً بالتقاليد الكنسية والبطريركية، أزيلت صورة البطريرك صفير من صالون الصرح، لتوضع مكانها صورة البطريرك الجديد مار بشارة بطرس الراعي، إلى جانب صورة قداسة البابا، ونقلت صورة صفير إلى مقر إقامته في الصرح.

وكان أن دخل البطريرك بشارة الراعي إلى صالون الصرح فانتبه إلى أن صورة سلفه لم تعد موجودة، فطلب بإعادتها فورا إلى مكانها، منبها العاملين إلى أن الصورة ستبقى معلقة إلى جانب صورته وصورة قداسة الباب، وقال لهم "إنه البطريرك الدائم".

موقف الراعي هذا حمل البطريرك صفير على إعادة النظر في قرار انتقاله إلى الدير المرتقب، وقرر البقاء في الصرح، وهو قرار أثلج صدر خلفه، فخصص له جناحاً، حرص على توفير جميع مستلزمات الراحة فيه للسلف.

وينقل زوار الصرح أن البطريرك الراعي حرص على التعاطي مع سلفه على قاعدة "البرّ بالوالدين"، فكان يزوره باستمرار ويتابع وضعه الصحي، خصوصاً في السنوات الأخيرة، حين أمر بتخصيص ممرضين إثنين يلازمانه لأكثر من خمس سنوات.

نعش الزيتون والأرز
إلى الصرح الأحب إلى قلبه، عاد البطريرك صفير، محمولا على نعش من خشب الزيتون والأرز، يعلوه مجسم نصفي له. حتى أن نعشه، جاء تعبيراً عن مكنونات قلبه الروحانية، فخشب الزيتون له رمزيته المسيحية من بستان الزيتون الذي صلى فيه السيد المسيح في القدس، إلى وادي قنوبين، حيث كان يمضي البطريرك الراحل، أوقات صفاء وتأمل، فكان خشب الزيتون من قنوبين، ومن أرز الرب الذي ذكر في العهد القديم، يعلو الكل مجسم نصفي للبطريرك، نحت من صخرة من وادي حريصا، المقر الجغرافي للصرح البطريركي. لكأنه أراد في رحلته الأبدية أن يحتضن جسده النحيل كل ما يرمز إليه لبنان، الذي أحبه من خلود الأرز، إلى قداسة شجرة الزيتون، فصخور حريصا.

النعش العابق برمزية البطريرك صفير، أخفق في التعبير عن نمط حياته الزاهد والمتقشف. فجاء تعبيراً عن عظمة ساكنه الزمنية وليس الروحية، فكان أن استبدل في الجنازة بنعش متواضع، جاء أكثر انسجاماً مع نمط حياة البطريرك الراحل.

الموكب إلى الصرح
على مدى 36 ساعة، بدأت جنازة الراحل الكبير، فانقسمت بين شعبية ورسمية، حين بدأ تقاطر وفود المشاركين في الموكب، الذي حمل جثمان البطريرك إلى مستشفى أوتيل ديو، صباح الأربعاء، وانتشرت على طول الطريق إلى الصرح البطريركي، جموع المواطنين لإلقاء نظرة الوداع على الراحل، حاملين الورود وناثرين الأرزّ على الموكب. ولولا الترتيبات البروتوكولية التي أعدها الصرح البطريركي، لكان جثمان الراحل حمل في محطات عدة، أبرزها من مفرق غدير إلى بكركي، وهي مسافة تزيد عن 2500 متر، تطوع لها أكثر من ألف شاب، أبرزهم محازبي "القوات اللبنانية" ومحبي البطريرك صفير.

بكركي بكل ما فيها من بشر وحجر، انحنت إجلالاً لسيدها العائد إليها للمرة الأخيرة، لتحتضنه في رحلته إلى الأبدية، بعد ما قال ما قاله للتاريخ.

عند مدخل الصرح انتظره البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، مع المطارنة والكهنة والسفير البابوي، ونواب من كتلة القوات اللبنانية، حيث أنزل النعش، الذي رافقه في موكبه من مستشفى اوتيل ديو، النائب فريد الخازن (فآل الخازن، تاريخياً، هم "حراس بكركي") وعائلة الفقيد، وعدد من نواب القوات، وحمله المطارنة والكهنة على وقع قرع اجراس بكركي حزناً، والصلوات الجنائزية، وعبق البخور الذي رافق جمهور المشيعين.

وفي لفتة خاصة بالراحل الكبير، عزفت موسيقى قوى الأمن، بإيعاز من مديرها العام، تحية للبطريرك الراحل، النشيد الوطني اللبناني، ونشيد التعظيم، الخاص برؤوساء الجمهورية، فكان الاستثناء للبطريرك الاستثنائي.

إلى كنيسة الصرح المتواضعة، حمل جثمان صفير، حيث سجي لإلقاء النظرة الأخيرة، فترأس البطريرك الراعي صلاة رفع البخور لراحة نفس الفقيد الكبير، ثم انتقل إلى صالون الصرح لتقبل التعازي من الرسميين والمواطنين.

حماقة "العونيين" واستدراكهم
جموع المشيعيين والمودعين غاب عنها أنصار "التيار الوطني الحر"، الرسميين منهم والمحازبين، فوصل الجثمان إلى بكركي بغياب ممثل للتيار ونواب التيار عن منطقة كسروان، فتعالت الأصوات المنددة بهذا الغياب المتعمد، لكأنهم ما زالوا يعيشون ترددات "غزوة "بكركي، إثر توقيع اتفاق الطائف، فأرادوا الاستمرار في "تأديب" البطريرك على وقوفه داعما للاتفاق وللمصالحة، ولإنهاء الحروب اللبنانية العبثية.

التردد العوني تم استدراكه لاحقا، فوصل النائب ابراهيم كنعان إلى بكركي بعد ساعة من تسجية جثمان البطريرك. ثم تعاقب وصول الرسميين منهم، فكان أن وصل نائب كسروان العميد شامل روكز السادسة مساءً!

وكان لافتا أن مسؤولي التيار العوني وصلوا منفردين إلى بكركي، في حين أن الوفود اللبنانية الأخرى كانت تصل بكامل عدتها وعديدها. فالرئيس ميقاتي وصل على رأس وفد من أكثر من 200 شخصية ومناصر لـ"تيار العزم"، وأمين عام "تيار المستقبل" أحمد الحريري أتى أيضا على رأس وفد كبير، وكذلك النائب فيصل كرامي الذي ترأس وفداً من أكثر من خمسين مناصراً، علماً أن وفود "القوات اللبنانية" كانت الأكثر حضوراً على المستوى المسيحي،  وكذلك جماعة الرهبان والكهنة والقساوسة وجماهير المؤمنين من المسيحيين و"السياديين"، الذين لطالما عبّر عن هواجسهم غبطة البطريرك الراحل.

بطريرك العيش المشترك
كان لافتاً أيضا المشاركة الرسمية والشعبية الإسلامية، التي قاربت نظيرتها المسيحية، فحضر رجال الدين المسلمين من كل المذاهب والطوائف، يعبرون عن حزنهم وأسفهم لرحيل "بطريرك العيش المشترك" والمصالحة والاستقلال والحرية والسيادة.

وهو مسجى، حافظ على وقاره، وزاده الموت هيبة، وفي لحظاته الأخيرة، "أرهب" من خاصموه، فحضروا إلى بكركي ليلقوا عليه نظرة الوداع، ربما ليكتشفوا سر صلابة هذا المقاوم السلمي، الذي سار بين الأشواك ورذاذ المطر، ليعبر بالبلاد والموارنة إلى أقرب شط أمان.

وفي حين وحدها غابت محطة "المنار" التابعة لحزب الله عن الحدث، استدرك العونيون هول قرار مقاطعة موكب التشييع رسمياً وشعبياً، فأصدر "التيار الوطني الحر" ليل الأربعاء بياناً دعا فيه الأنصار والمحازبين إلى المشاركة بكثافة في تشييع البطريرك. ربما أيضا للتنافس مع جمهور "القوات" الذي بدا كخلية نحل تتقاطر إلى قفيرها في بكركي، لتودع البطريرك الذي حمل على منكبيه قضية لبنان، التي تعتبرها "القوات" قضيتها الأولى والوحيدة.. ومع ذلك، تخلف أنصار التيار الوطني الحر عن المشاركة في التشييع، واقتصر الأمر على نوابهم ووزرائهم، ربما لفداحة الحرج التاريخي مما اقترفوه عام 1989.  

مسيرة الوفاء الجنبلاطية
واللافت في تشييع غبطة البطريرك الراحل، كان مسيرة الوفاء من الجبل، بدعوة من الزعيم وليد جنبلاط، شريكه في المصالحة التاريخية، التي سعى إليها صفير وجنبلاط معاً بشراكة تامة وناجزة، فأنهت صراعاً درزياً مسيحياً حمل جروحه، المسيحيون والدروز منذ العام 1860. ويحرص جنبلاط اليوم أكثر من أي يوم مضى على التمسك بها، وتعزيزها، رغم محاولات التشويش عليها، التي بدأت فور إنجازها، من سلطات "الوصاية" سورية حينها، كونها مصالحة بقرار لبناني صرف، نابع من إرادة صفير وجنبلاط معاً، من دون حتى إعلام الأوصياء من سوريين ووكلائهم اللبنانيين.. وصولاً إلى من تضرر منها ويسعى إلى تشويهها ويعتاش على تظهير وتسعير الخلافات و"نبش القبور"، ويتمنى حرف المصالحة عن أهدافها الأصلية والإفادة منها بأسوأ أسلوب شعبوي.

ولأنه وليد جنبلاط الوفي لمسيرة النضال مع البطريرك الراحل، زحف الآلآف من الجبل لوداع "بطريرك المصالحة".

بعد انتهاء مراسم التشييع، حُمل جثمان البطريرك صفير إلى مثواه الأخير في مدافن البطاركة في الصرح البطريركي في بكركي. وهي المدافن التي امر هو بتشييدها بطريقة عصرية وحديثة، لتضم رفاة اربعة عشر بطريركا من بعده.

مع رحيل صفير، تطوى صفحة من تاريخ لبنان. فهل هي صدفة أن يرحل في أقل من شهر، مع أبرز معاونيه المطران رولان أبو جودة وأمين سره الأب ميشال العويط؟ وهو سيلتقي حتما صديقه الذي "تركه وحيدا"، مفتي الجمهورية اللبنانية حسن خالد، الذي صادفت ذكرى استشهاده يوم تشييع البطريرك المقاوم.