سرعان ما تبدّل مشهد ترسيم الحدود مع إعلان إسرائيل رفضها للملاحظات التي تقدم بها لبنان في إطار ردّه على مسودّة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، وبدا وكأن الملف بات بمهب رياح رفض تل أبيب. بدّدت أجواء إسرائيل الإيجابية التي أُشيعت في بيروت في الأيام الماضية، مع الحديث عن اقتراب موعد عقد الاتفاق الذي يحصّل كامل حقوق لبنان دون إجراء أي تنازلٍ.
لم ينقل هوكشتاين إلى لبنان أي رسالة رسمية من إسرائيل، إلّا ان ما جاء على لسان رئيس الحكومة يائير لابيد ووزير دفاعه بيني غانتس كان كافياً لفرملة الاندفاعة اللبنانية بالملف. إذ نقل مسؤول إسرائيلي عن لابيد قوله إن "إسرائيل لن تتنازل عن مصالحها الأمنية والاقتصادية حتى لو كان ذلك يعني عدم وجود اتفاق قريباً"، فيما لفت مسؤول إسرائيلي آخر إلى أن "لبنان يسعى إلى إجراء تغييرات جوهرية، ولابيد أصدر تعليماته إلى فريق التفاوض برفضها".
على الإثر، نقلت وسائل إعلام إسرائيلية معلومات مفادها إصدار غانتس تعليمات تقضي برفع الجهوزية على الحدود الشمالية مع لبنان، تحسّباً لأي تصعيد أمني، ما يؤكّد رفض لابيد للرد اللبناني، ويُشير إلى أن الموقف الإسرائيلي سلبي من الملف، إلّا أن موقفاً عن هوكشتاين من المفترض أن يصدر رسمياً للبناء على الشيء مقتضاه.
بدأت الأجواء السلبية تُطل برأسها مع رفض زعيم المعارضة بنيامين نتانياهو للاتفاق يوم الأربعاء، وقوله إن أي اتفاق لن يكون ملزماً له في حال وصوله إلى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات التي ستجري في الأول من تشرين الثاني في تل أبيب، خصوصاً إذا ما لم يقره الكنيست الإسرائيلي أو لم يجرِ استفتاء حوله. وترافق ذلك مع استقالة كبير المفاوضين الإسرائيليين من موقعه بسبب رفضه لمجريات الأمور.
رفض نتانياهو أظهر انقساماً جلياً في الداخل الإسرائيلي حول الملف، وقد يطيّر هذا الانقسام فرص التوصّل إلى اتفاق في الوقت القريب، وفي حال طال أمده إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية وجاءت النتيجة عكس ما تشتهي سفينة لابيد وأعادت نتانياهو إلى سدّة الحكم، فإن ذلك قد يعني تطييراً لمسودّة الاتفاق برمّته وعودة المفاوضات إلى نقطة الصفر، بانتظار الموقف الأميركي المستعجل في إنجاز الملف.
من غير المرجّح أن تكون التعديلات التي طلبها لبنان السبب خلف التراجع الإسرائيلي عن الأجواء الإيجابية التي أطلقها لابيد وغانتس نفسهما الأربعاء في موقف أولي حول مسودّة هوكشتاين، خصوصاً وأن التعديلات "شكلية" حسبما أعلن جميع المعنيين بالملف في الداخل اللبناني، وعلى رأسهم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، بل إن دخول نتانياهو على الخط قد يكون العامل الأساس، خصوصاً وأن الأخير كتب عبر "تويتر": "الضغط الشديد الذي مارسته أنا وأصدقائي، فقط، جعل لابيد ينسحب من اتفاقية الاستسلام في الوقت الحالي".
قد تكون الانتخابات الدافع الأول وراء تراجع لابيد عن عقده اتفاقاً يضمن للبنان حقوقه، خصوصاً وأن نتانياهو وصّف لابيد وكأنّه ينحني أمام إرادة الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله في تغريدة ثانية، ووصف الاتفاق بالاستسلام، فيما سارع الجانب اللبناني إلى اعتبار الاتفاق بمثابة "انتصار على إسرائيل"، ما سيصوّر لابيد على أنّه تراجع أمام لبنان ولبّى طلباته التي لم يكن يتوقّع الأخير أن يحققها برأي الداخل الإسرائيلي، فينعكس الاتفاق سلباً على نتائجه في الانتخابات، وهو الأمر الذي دفعه بالتذرّع بعدم التنازل عن المصالح الاقتصادي والأمنية لإسرائيل أثناء رفضه التعديلات، في خطوة لا تخلو من الشعبوية.
ورغم مصلحة لابيد بعقد الاتفاق قبل الانتخابات الإسرائيلية لضمان "الانجاز" في عهده، إلّا أن بقاءه في الحكم سيكون أهم، وسيخوّله إلى العودة إلى عقد الاتفاق من جديد، ما يعني أنّه سيبدّي الانتخابات على الاتفاق، وستقوم حساباته في المرحلة المقبلة على هذا الأساس، بعدما قرر نتانياهو خوض حملة انتخابية - إعلامية بوجهه في هذا السياق.
يترنّح الاتفاق بين الموقفين الإسرائيليين المتضاربين، ومن الواضح أن نتانياهو نجح في جر لابيد إلى حيث يريد، ودفعه إلى التراجع عن الإيجابية، إلّا أن الأمور لم تُحسم بعد بانتظار الموقف الأميركي من الملف والذي من المرتقب أن يصدر عن هوكشتاين، لكن لا شك أن الانتخابات الإسرائيلية ستكون لاعباً أساسياً، وقد تؤدّي إلى تأجيل الملف برمّته إلى ما بعد الأول من تشرين الثاني، موعد الإجراء، على أن يبنى على نتائجها المقتضى.