Advertise here

المسارُ الإنساني في شخصية المقدّم شريف فيّاض

05 تشرين الأول 2022 13:56:57 - آخر تحديث: 05 تشرين الأول 2022 13:57:53

في ذكرى وفاة المقدّم شريف فياض الخامسة، تتسابق لديّ عاطفة الفراق مع عقلانية الباحث، لاستذكار مآثر شخصية «الرجل الرجل في الأوقات التي عزّ فيها الرجال». عند قراءتي لما كتبه المقدّم فياض، ولما كُتب وقيلَ عنه، مستعينة بما اعتلمته من ذاكرة أفراد عائلته، أجد نفسي مختارةً كتابة المسار الإنساني في شخصيته، وربما أبدو بذلك غير حيادية، مستذكرة قوله في مقدمة كتابه (نار فوق روابي الجبل، 2015)، «أنا لست حيادياً فيما كتبت»، راسمةً أفكاري بين عناوين تتداخل كوريقات زهرة عطرة فوّاحة، يحملها جذع متين حُفر عليه إيمان المقدّم بقناعاته الثابتة وممارسته لها على نفسه قبل الغير، مقدّمة هذه اللوحة عربون وفاء في ذكراه.
 

إبن قرية بشتفين
ولد شريف سليمان فياض سنة 1937، في قرية بشتفين الشوفية، المتميّزة بالحفاظ على عادات وتقاليد راسخة في ذاكرة أهل الشوف، وتربّى في منزل اعتاد على ممارسة الشأن العام حين كان والده مختار بلدته لسنوات طوال، وفي زمن كان الاعتناء بالأرض الزراعية واجبًا ملزمًا على جميع أفراد العائلة. بقيت معالم هذه التربية راسخة في شخصية المقدّم، حين لم تغلب قساوة الحياة العسكرية في الجيش اللبناني أو في قيادة الجيش الشعبي، على ملامح الحس الإنساني لديه، فتراه نصير الضعيف، ومساعد المحتاج، وكفيل المظلوم، فقد «تميّز بعمله الصامت وأخلاقه الدمثة وابتسامته الودودة»، ومارس خدمة الناس وتأمين احتياجاتهم حتى وهو على فراش المرض، في مستشفى الجامعة الأميركية، حيث يشهد من رافقه من الجهاز الطبي ومن أفراد عائلته على الاتصالات الهاتفية والزيارات المتعلقة بتسيير شؤون الناس. حافظ المقدّم على العادات والتقاليد في بلدته، فتراه أول الواصلين إلى لقاء عيد الأضحى، منتظراً افراد عائلته لينتقلوا سوياً إلى ساحة البلدة، حيث ملتقى جميع العائلات. كنت تراه مواسياً للمحزونين في مآتمهم، ومشاركاً للعرسان في أفراحهم. احترم العائلة التي انتسب إليها، وافتخر بالبلدة التي ولد فيها، فتراه يتمم أفراح أولاده في بيته في بشتفين، حين احتضن منزله قادة الوطن وسفراء الدول، واقفاً كالمارد بين أنسبائه وأهالي بلدته، على يمينه وليد جنبلاط ورفاقه في الحزب، برمزية ربما كان يرتقبها، حين احتضنت البلدة جثمانه في مأتم ضخم ضمّ قادة الوطن وسفراء الدول، ووليد جنبلاط، فيما كان المقدّم كالمارد الهامد على طريق مثواه الأخير.   

طبّق المقدّم قناعاته على نفسه وعلى عائلته، فتراه يدرّب أولاده على احترام الناس وحاجاتهم، يعلّمهم فنون الاعتناء بالأرض وإدارة الوقت بالممارسة وبالاقتداء به، حين كان يرافقهم صباحاً، إلى الحقول الزراعية، ويوزّع المهام عليهم قبل الانتقال إلى عمله، فكم من رفيق رآه «يفرط» الزيتون، أو يروي الزرع... أمّن لهم المستلزمات لتحصيلهم العلمي، ولكنه لم يستغل لا منصبه ولا علاقاته لفرض خياراته عليهم، وهم بالمقابل لم يخذلوه ووصلوا إلى أعلى المراتب في هذا المجال. 

احترم المرأة وآمن بقدراتها، دعم تحصيلها العلمي، شجّع نشاطات السيدات في مؤسسات الحزب ودعم اقتراحات الاتحاد النسائي التقدمي، حين اعتبرهنّ الأقرب إلى شرائح المجتمع والأدرى بحاجاته، وعلى سبيل المثال كان الراعي لـ «حملة دعم المريض» في بلدته بشتفين.

آمن بالمصلحة العامة، وانطلاقاً من بلدته شجّع وساهم ودعم بناء دارٍ جامعةً لجميع عائلاتها «دار البلدة للخدمات الاجتماعية»، في زمن كانت الدورُ في باقي القرى تُبنى على أسماء العائلات فيها، حينها عمل جاهداً مع وليد جنبلاط، وكان الوسيط لتأمين هبة الأرض وجزء من كلفة البناء لإتمامه. 

كان المقدّم محباً للحياة، وكما قال وهيب فياض واجه المرض «بأسلحته الذاتية ودفاعاته الشخصية.... حتى ليتبادر إلى ذهنه أن الموت لم يغلبه... وهو يخال الموت يؤدي له التحية العسكرية قبل أن يصطحبه في رحلته الأخيرة». 

اختصر المقدّم نهج حياته بنفسه قائلاً « رافقت  الكبار وحاولت أن أتخلق بأخلاقهم وأن أسلك نهجهم في التواضع والتفاني والأثَرة. جنيت فيها ثروة عظيمة، هي محبة الناس وثقتهم واحترامهم»، فرثاه وليد جنبلاط قائلاً «حملت راية الحزب ولم تطلب لنفسك شيئاً عشت هانئاً متواضعاً ورحلت راضياً مرضياً».

ضابط في الجيش اللبناني

سمح تحصيل شريف العلمي الراقي في حينه، انطلاقاً من المدرسة الداوودية في عبيه، مروراً بالمعهد العربي في بحمدون، وصولاً إلى نيل شهادة البكالوريا اللبنانية من مدارس المقاصد في بيروت سنة 1959، بالتقدم إلى امتحانات الدخول إلى الكلية الحربية في الجيش اللبناني، انسجامًا في حينه مع تطلعات العهد الشهابي في ضم الطاقات الشبابية الكفوءة إلى صفوف الجيش اللبناني، وجعله خير مدرسة للتربية على المواطنية. 

أحبّ الضابط فياض الجيش اللبناني وآمن به لا طائفيًا، وعل سبيل المثال حال دون استقالة أحد رفاقه من الضباط «الموارنة» قائلاً له «إذا كان المخلصون سيستقيلون لمن سنترك البلد؟». تخرّج من المدرسة الحربية سنة 1961، وتدرّج في الرتب حتى رتبة رائد، عمل من أجل وحدته حين اندلعت حرب السنتين سنة 1975، وكُلّف بمتابعة ثكنات الجيش التي انفصلت عن القيادة المركزية. غادر مركز خدمته سنة 1976 في الفياضية بعد أن تأكد له مسار «الجيش الفئوي»، وانتقل إلى منطقة الشوف حيث بدأ نشاطاً سياسياً وعسكرياً مؤيداً لكمال جنبلاط حين التقت قناعاته «مع فكر المعلم بالتمسّك بهوية لبنان العربية وباعتبار مرتكزات النظام السياسي هي الحرية والديمقراطية والمساواة كما التقت مع قناعاته بحقّ الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه». قدّم استقالته سنة 1978 وتقاعد برتبة مقدّم، «حتى يكون أميناً لرسالته العسكرية... ويكون صادقاً بالتزامه تجاه الحزب التقدمي الاشتراكي». لم يُخفِ فرحته حين وجّه، في ختام حياته السياسية، تحية للجيش اللبناني وضباطه الذين تمكنوا من «إعادة بناء المؤسسة العسكرية على عقيدة وطنية عربية تؤهلها للذود عن الوطن».

القائد العسكري الاشتراكي

ساهم المقدّم في تأسيس «قوات التحرير الشعبية»، للمشاركة في حرب السنتين إلى جانب الحركة الوطنية والحزب التقدمي الاشتراكي. بعد دخول القوات السورية إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط سنة 1977، كانت أولى المهمات التي تولّاها فياض تحت قيادة وليد جنبلاط للحزب التقدمي الاشتراكي، إقامة معسكر تدريب سرّي في منطقة الشوف، لتتحول بعدها معسكرات التدريب إلى علنية، ويكلّف رئيس الحزب سنة 1978، المقدّم فياض قيادة «جيش التحرير الشعبي - قوات الشهيد كمال جنبلاط»، والذي استمر بتأدية مهامه حتى انتقاله للعمل السياسي. كان القائد فياض المخطّط الحذق، والمنفذ المتابع على الأرض لأدق التفاصيل، غير المتهور، وملتزم بالتنسيق مع رئيس الحزب في كل القرارات العسكرية.

المناضل الحزبي السياسي
نشأ شريف فياض على إيمانه بالعروبة، تأثر بفكر ومبادئ جمال عبد الناصر، وحين التقت قناعاته مع فكر كمال جنبلاط، اعتبر نفسه «حامل قضية انخرط فيها وقاتل من أجلها حوالي نصف قرن». ناضل من أجل قضيته عسكرياً، وانتقل إلى العمل السياسي من خلال انتسابه إلى الحزب التقدمي الاشتراكي وتبوأ منصب أمين السر العام منذ سنة 1987 حتى سنة 2011. سخّر المقدّم منصبه برفقة نخبة من المناضلين «لإعادة بناء الحزب ومؤسساته وتلبية متطلبات الناس والوقوف على حاجاتهم»، مهتماً بالجيل الناشئ حين عمل على «تدريبه ليحسن استعمال البوصلة»، وخاصة من خلال منظمة الشباب التقدمي التي انتسب إليها نخبة من الشباب الذين اعتبروا المقدّم مثالاً وقدوة، وتبوأ عدد كبير منهم لاحقاً مناصب قيادية في الحزب أو في الحياة السياسية اللبنانية. كان المقدّم فخوراً سنة 2011 أن جهوده وجهود رفاقه بتوجيهات وليد جنبلاط «أثمرت في الجمعية العمومية مجلساً قيادياً شاباً حيوياً منتخباً»، معللاً ذلك قائلاً «أترك موقعي بقرار حزبي ديمقراطي أخذته الجمعية العامة وأبقى في المختارة بقرار شخصي حرّ واعٍ »، موجهاً التحية لهؤلاء الشباب «جيل المستقبل وهم يعبرون الجسر في الصبح خفافاً»، حين جعل أضلعه تمتد لهم «جسراً وطيد». أقرن المقدّم القول بالفعل حين اصطحب في الأسبوع الأول بعد تركه منصب أمانة السر «حفيده ابراهيم إلى دار المختارة وكأنه يقول دون أن ينطق أنا معكم إلى ولد الولد».

عمل المقدّم على «كسر أطواق المذهبية والطائفية والمناطقية»، وتنبّه إلى «المستغلين والنفعيين الذين يسيرون في الصفوف الخلفية للمناضلين ويتربصون بالصيد الثمين كلما لاحت لهم الفرصة». استمرّ المقدّم بممارسة قناعاته، وحاول اثباتها وتعميمها حين حاضر عن لبنان ومقومات الدولة فيه، عرض المشكلة في نظام لبنان السياسي الذي لم يؤمّن «العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين»، ولكنه عرض أيضاً الحلول وبوّبها وووضعها تحت عنوان عريض هو «إعادة بناء العقد الاجتماعي بين اللبنانيين» من خلال الحوار والوصول إلى «الاتفاق على مجموعة مُثل وقيم إنسانية وأخلاقية تكون ناظماً لسلوك الأفراد والمجتمع، تنبثق من شرعة حقوق الانسان، وتؤمّن العدالة والمساواة وتضمن الحريات العامة، وتعتبر الدين شأناً شخصياً لا مكان له في الممارسة السياسية».

ساهم اعتداله وحسن إدارته الشأن العام، أن تكليفه من رئيس الحزب الإشراف على إدارة الانتخابات اللبنانية العامة النيابية والبلدية والاختيارية، وتولي رئاسة اللجنة الانتخابية في الحزب، منذ سنة 1993 حتى سنة 2005.

حدّد المقدّم عدوّه وعدوّ لبنان أنه «إسرائيل»، ونبّه من «تسويق مخططاتها تارة بالإغراء وطوراً بالتهديد وباستخدام القوّة لفرض إرادتها كما حاولت أن تفعل من خلال احتلالها عاصمة لبنان وجزءاً من أراضيه». آمن المقدّم «بحق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه»، لم يبخل بعمله السياسي أو بعلاقاته الشخصية من نصرة هذه القضية، ما حدا بالسفير أشرف دبور أن يصفه «برمز التضحية والعطاء وافتداء الوطن ورفض ظلم فلسطين واحتلالها مناصراً قضيتها وشعبها» معتبراً إياه «رمزاً للارتباط الأخوي اللبناني الفلسطيني». مع العلم أن هذا الالتزام لم يحجب أولويات المقدّم الوطنية.

المربي التربوي المثابر
ظهرت بوادر تعميم الثقافة منذ الصغر، حين ترأس شريف تحرير مجلة ثقافية في المدرسة الداوودية في عبيه تحت اسم «life». ساهم المقدّم فياض في إصدار برنامج التنشئة الوطنية في مدارس الجبل وأشرف على إصدار سلسلة كتب لتدريسها بالتعاون مع المكتب التربوي في الإدارة المدنية حينذاك. كُلّف عضواً في مجلس أمناء «مؤسسة وليد جنبلاط للدراسات الجامعية» سنة 1988، ليصبح أمين سر المؤسسة منذ سنة 1994 حتى تاريخ وفاته، حيث عمل على مأسستها وتنظيمها مع رفاق مخلصين، وتحويلها إلى مؤسسة أكاديمية. من منطلق قناعاته الراسخة، وممارستها على نفسه، استنهض المقدّم معارفه، لبناء شبكة علاقات مع المؤسسات الجامعية الخاصة والرسمية، لصالح آلاف الطلاب الجامعيين داخل لبنان. كلّ ذلك جعل وليد جنبلاط يختار هذا المضمار ليخلّد فيه اسم المقدّم بعد وفاته، بإطلاق «منحة شريف فياض» السنوية الموجّهة إلى الطلاب المتميزين في الدراسات العليا خارج لبنان.
رجل الحوار والمصالحة

«أكرمني الله أن أكون إلى جانب وليد جنبلاط في معركة التحوّل من العسكرة إلى السياسة، وفي الانتقال من خنادق الحرب إلى طاولات الحوار، ومن متاريس الخصام إلى لقاءات المصالحة»، بهذه الكلمات كرّم شريف فياض نفسه في حفل تكريمه سنة 2011، حين أفصح عن قناعاته الراسخة بضرورة الحوار وإتقان موجباته وصولاً للمصالحات الكبرى التي عرفها جبل لبنان. في المقابل كان وليد جنبلاط معبّراً حين رثاه بوصفه «كنت رمز الصلابة في مرحلة الحرب ورمز التسامح في مرحلة السلم، واكبت عودة المهجرين وعملت بجهد لطي صفحة الحرب المشؤومة». 

رأى د. قصي الحسين في المقدّم «جسر القاضي بين رفاق تنابذوا وبين رفاق تحابوا»، فهو «جسر أهلي ووطني وحزبي وتقدمي وجنبلاطي وتاريخي متحرك». أما شهادة فؤاد أبو ناضر الآتية من موقع الخصومة السابقة، فقد شددت على الدور الذي لعبه الراحل أثناء الحرب وبعدها من أجل وضع كتاب جديد فيه طيّ لصفحات الماضي وفتح صفحات بيضاء للتعايش في الجبل ولبنان، ولا سيما الجبل بعد عودته إلى لحمته السابقة، وقد التقت قناعاته مع المقدّم حين أكّد أن «لبنان لن يستقيم إلا إذا اجتمعنا على البحث عن حقيقة تاريخنا الحديث لأن الحقيقة هي التي تلغي الحدود وتحوّل ساحة الوغى إلى ساحة لقاء». 

اختبرت مفهوم البحث عن الحقيقة عند المقدّم بنفسي، حين زوّدني بما احتجت إليه من وثائق للكتابة عن دور الإدارة المدنية في الجبل، واقترح عليّ أن أكتب عن دور الإدارات المحلية عند الأطراف التي كانت في الجهة الأخرى من الحرب، ذُهلت حينها ولكنني تعلمتُ درساً أن الحقيقة لا تتجزأ ولا يكتمل نسج خيوطها إلا من جميع الجهات. 

كل هذه المبادئ تجدها منتشرة في صفحات كتاب المقدّم، وهي خير دليل على ممارسته قناعاته على نفسه قبل غيره، حين استضاف عائلة، في خضم الحرب، مصنّفة من «الخصوم»، مؤلفة من ستة أطفال في أسّرة أولاده وتحت رعاية زوجته، مؤكداً أن «المحبة حلّت محل الحقد في قلوبهم...يعيشون متصالحين مع أنفسهم ومع مجتمعهم» مستخلصاً أنه «من رحم المأساة تولد المحبة ومن صخب التطرّف وغباره تنقشع خيوط المصالحة ومن القناعة بالشراكة الوطنية يُبنى الوطن وتُبنى مؤسساته» مستذكراً الحوار الجدّي والمسؤول «الذي جرى في القاعات العامة في الجبل أو في الأديرة والمكتبات وكان له أثر بالغ في ترميم جسور الثقة بين الناس من مختلف المذاهب والأحزاب وسهّل التلاقي والتعاون والعودة وغسل القلوب»، مختتماً بخلاصات تشق طريق بناء الوطن حين يذكر أنه «لا يفيدنا في لبنان أن نطمس حقائق الخلاف وجذور التباين القائم ونهمل واقع التوازن الوطني المضطرب»، وحين يعتبر أن «أهم الدروس المستقاة من الحرب الأهلية اللبنانية هو درس العودة إلى الحوار الداخلي والقناعة بالتنوّع والعيش المشترك وقبول الآخر كما هو ذلك الآخر. وبغياب ذلك الحوار الجدّي المخلص وبغياب القناعة بالوطن وبالشراكة فيه ستتكرر المآسي وإن بحلل مختلفة وألوان متعددة»، وكأنه يقول امتثلوا إذا أردتم بناء لبنان.

الكاتب المؤرخ

اهتم المقدّم بالكتابة التاريخية، ولكنه لم يتناولها من نظرة القائد العسكري، أو استغلها لعرض سيرة شخصية احتلّت أعلى المراكز، بل اتبع خطوات منهج البحث التاريخي، من حيث أهمية اختيار الموضوع؛ فقد كتب عن مرحلة دقيقة من تاريخ الجبل ومن خلاله تاريخ لبنان المعاصر، وقد حدّد إشكاليته في مقدّمة كتابه حين افترض أنّ «كلفة التسوية مهما كانت باهظة تبقى أرخص من كلفة الحرب حتى لمن ينتصر فيها». سعى إلى تأمين المصادر والمراجع، ولم تأخذه نشوة القائد كي يتفرّد بالخبر، بل تواصل مع من عايش الحدث، ونهل من محفوظات الحزب التقدمي الاشتراكي، واستعاد من الصحف اليومية ما احتاجه... فتراه في كل مفاصل كتابته، يوثّق معلومته بالاسماء، بالتواريخ، بالوقائع الحقيقية غير الافتراضية، ليتحول كتابه (نار فوق روابي الجبل) مصدرًا يعتدّ به للفترة الزمنية التي غطّاها. 

أراد المقدّم أن يستفيد من الكتابة التاريخية إلى أبعد حدود، فتراه يشقّ طريق المنهج الاجتماعي، حين جال في «الاقتصاد والثقافة والفنون والسياسة والأعراف والتقاليد والمفاهيم الضابطة لإيقاع نبض الناس في حقبة تاريخية محدّدة»، وكان جسوراً أن صاغ العبر بين طيات صفحاتها، رافضاً العنف حين خاطب أولاده «فلينشئوا أولادهم (احفادي) على رفض العنف الذي لا يؤدي إلا إلى التراجع والانهيار»، مظهراً كلفة الحرب على المجتمع التي «نسفت أسس المجتمع ومرتكزاته»، مشيراً في أكثر من محطة إلى «العلاقات الإنسانية بين أهالي القرى قبل الحرب وبعدها علّ في ما كتبتُ درسًا من الماضي وعبرًة للمستقبل». جعل الأمثلة المحسوسة أحاجيج لتبيان قناعاته ومحاولة تعميمها، فحين أظهر قلقه وقلق وليد جنبلاط على وضع بلدة دير القمر كان يؤكد أنّ «انتشار الغرباء فوق تلالها أمر مؤقت وزائل، أما الثابت والدائم فهو التواصل الاجتماعي مع الجوار»، وحين ذكر نسيبه المهاجر من بشتفين وجد فيه «نموذج المغترب اللبناني الذي يحمل الحنين في قلبه وجواز السفر في يده والدمعة على وجنتيه»، وحين قارن وضعه واقفاً مُهدَداً بين حاجزين أحدهما سوري والآخر إسرائيلي مع «وضع لبنان على ساحة الصراع الإقليمي بين سوريا وإسرائيل وبين مصالح القوى الإقليمية وهو عاجز لا حول له ولا طول»، مختتماً للأسف كتابه باستنتاج محبط «هل أرض لبنان هبة من الله لا يستحقها شعبه؟!.» 

خمس سنوات مرّت على غلبة موت المقدّم شريف فياض، «وهي خسارة مشروعة، في معركة الإنسان الأخيرة مع الموت منذ بدء الخليقة، ولمّا تزل في أذهاننا جميعاً صورة المقدّم منتصب القامة، مرفوع الهامة...».