Advertise here

أمانة البطريرك صفير

16 أيار 2019 15:25:00 - آخر تحديث: 18 أيلول 2019 20:12:08

رحيل البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير محطة ينبغي الوقوف عندها والتعلّم منها. هي مثل محطات هامة في حياته اتخذ فيها مواقف استثنائية وتحمّل بسببها النقد والتجريح والإهانة أحياناً من قبل بعض أبناء رعيته. تألم كثيراً. صبر. عاند . قاوم الترهيب والترغيب. عبّر بشجاعة عن ثوابته. وبقي حتى آخر لحظة في حياته منسجماً مع ذاته متمسكاً بأفكاره وثوابته وتوجهاته وجوهرها: لبنان الكيان: الحرية، التنوّع، الديموقراطية. وكرامة الانسان فيه وفي كل مكان. عرفته مباشرة بعد أن توقفت الحرب في لبنان. كانت حوارات جدية وصعبة بيننا أحياناً . اختلفنا على مواقف وقضايا وآليات إدارة التعاطي مع الواقع الاستثنائي أثناء "الإدارة السورية " لكل شيئ في البلد بتفويض عربي ودولي بعد إقرار اتفاق الطائف.

ولكننا، كنا دائماً متفقين على عدم الخلاف على لبنان. على الدولة. على الناس وحقوقهم وكرامتهم ووحدتهم وعلى ضرورة عودة المهجرين. وأذكر أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه كانت في اتفاق توصلنا إليه بصفتي موفداً من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الزعيم الوطني وليد جنبلاط ، برعاية وتوجيه من غبطة البطريرك الراحل، يقضي بالعودة الى منطقة الحرف الشوفية وقد دفعت آنذاك مبالغ زهيدة جداً لمن سكن منازل المهجرين فيها بمساعدة من وليد بك "وكاريتاس". وتوجّت هذه الإرادة بالمصالحة التاريخية عام 2001 . 

في كل اللقاءات والمتابعات لمواقفه لاسيما التي كنا نختلف فيها معه، كنت أزداد إعجاباً بصلابته، وثباته، وصدقه مع ذاته، ورجاحة عقله، ووضوحه، وصراحته،  وتركيزه الدائم على الأخلاق، ونظافة الكف، وإعطاء الشأن العام قيمته وحفظ أمانته في كل عظاته. وكان يذكّرني دائماً في هذ المسلك الصعب وفي موقع المسؤولية التاريخية يوم تحوّل مركز القيادة الى بكركي إثر غياب القادة "المسيحيين" لاسيما الكبار منهم ، بالقامة السياسية الفكرية الأخلاقية الكبيرة التي جسّدها المعلم الشهيد كمال جنبلاط الذي كان الإنسان غايته ، والأخلاق رايته، وكانت ممارسة السياسة شرف قيادة الرجال ، ولم يساوم على لبنان ووحدته والحرية والديموقراطية فيه .

كمال جنبلاط رفض دخول الجيش السوري الى لبنان في قمة خلافه مع قادة " الإنعزال اللبناني" (التعبير الذي كان يستخدم آنذاك) واتفاقهم مع حافظ الأسد رغم كل ما قدّم له من إغراءات. رفض إدخال لبنان في السجن العربي الكبير. قاومه. عرضوا عليه تسويات كثيرة قرأ فيها شيئاً واحداً: وضع اليد على لبنان. فرفض. نصحه محبون، قادة، رؤساء، ملوك، بمغادرة لبنان. وبعضهم نصحه بالدخول في "التسوية". قال للجميع: لن أغادر لبنان. أريد أن أموت مع شعبي. وأعرف قدري. وكيف ومتى سأموت!! والتسوية التي كان يرى فيها مجالاً لأن فيها حب الحقيقة، لم ير في ما طرح عليه "الحقيقة " التي يراها في لبنان وله. كانت صفقة مفخخة تفجّر لبنان في سياق لعبة الدول والأمم وقد حصل ذلك. 

اليوم نودّع غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، ولبنان في قلب العاصفة. والتسويات حوله وفوقه، وهو مهدّد بها  وللأسف من المسؤولين عنه الذين أسرتهم شهوة السلطة والمال ويقفون في الجانب الخطأ من التاريخ . ومع ذلك وقف اللبنانيون بإجماع حول تجربة الراحل الكبير. فكرّس احترام نفسه في مماته كما في حياته. وفي ما هو أبعد من المواساة "والواجبات" "والتقاليد والعادات"، في المشاركة في هذا الاجماع ، حبذا لو وقفنا أمام ضمائرنا لنلتزم مبادئ الخلاف السياسي الأخلاقية، القائمة على الاعتراف بالآخر، وحقه في التعبير عن رأيه ومعتقداته، وارتقينا بخطابنا الى لغة وأسلوب البطريرك ، واحترمنا بعضنا وكبارنا ومن سبقنا لأن التاريخ لا يبدأ مع أحد وينتهي معه، والمعرفة، والوطنية، والآدمية لا تبدأ مع أحد وتنتهي معه، والمظلومية إذا وقعت على أحد في مرحلة معينة فهو ليس وحده الذي ظلم، كما يتصرف بعض من هم في مراكز القرار اليوم، فلا يذكرون محاسن غيرهم من الأحياء والأموات لأنهم لا يرون الحسن إلا في مواقفهم وسلوكهم. إنها قمة الغرور والاستعلاء.
كلما غاب كبير من كبارنا في لبنان، والكبار باتوا قلة، كبر الخوف عليه. 

وداعاً مار نصرالله بطرس صفير، وإلى رجاء اللقاء بين اللبنانيين على قيم جسّدتها ونحن بحاجة إليها، وعلى دولة تحفظ الكيان والحرية والتنوّع والمؤسسات لتكون في خدمة الإنسان . 
لبنان على مفترق خطير. فلنسلك طريق الرجاء هذا. إنها أمانة البطريرك صفير.