Advertise here

الغرق الإقتصادي

28 أيلول 2022 15:46:56

يعيش إقتصاد لبنان حالة من الانفلات التضخمي Hyperinflation، حيث الوقائع المادّية دلّت على أنّ الرأسمال الخاص قد تخطّى الرأسمال العام تحت مسمى تجاوز أسلوب "رأسمالية أصحاب المصلحة" Stakeholder Capitalism Method، متخطية بذلك رأسمالية الدولة اللبنانية.

وليس من الصعب البحث في أسباب الأزمة، ليتّضح أنّ الدوافع السياسية قد تغلّبت على الأسباب الإقتصادية، بحيث لعبت الأولى دوراً مركزياً في افتضاح أمر هشاشة الإقتصاد اللبناني، وبأنّه لا يقوى على تحمّل ضرباتها بعندٍ.

فالصدمات السياسية، وخلفها صدمات السياسات المالية والنقدية، كان لها الأثر الكبير في تدمير الرأسمال الحكومي العام، أكثر ممّا يمكن أن تدمّره أي حرب تقليدية، وبما لها من تأثيرات سلبية على أنظومة الإقتصاد.

فالإقتصاد اللبناني أضحى في دائرة الدمار المادّي والذي توزّعت أسبابه، على سبيل الذكر، بين:

أ) الانخفاض الشديد في معدّلات الادخار المجتمعي إلى حدّ توقّفه نهائياً وبالكامل جرّاء ارتفاع منسوب التضخم السلعي، وإلى إخراج ما تبقّى من المدخرات من خزائنها لاستخدامها في تغطية تكاليف المعيشة التي ترتفع باضطراد.

ب) هروب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من مصفوفة الإقتصاد اللبناني.

ج) أسعار صرف متعدّدة في سوقٍ واحد ضيّق.

د) تآكل الثقة الكليّة في السوق المحلي وسحبها من المصارف والمورّدين المستوردين لكافة المواد والسلع وعلى اختلافها.

ه) والأهم من ذلك بطء الإصلاحات لحدود انعدامها، كما أشار صندوق النقد الدولي.

وهذا ما أودى بالإقتصاد إلى ما يُجاز وصفه بالموت السريري. 

ولا نجافي الحقيقة بالقول إنّ اتّباع أسلوب إحداث الحالة التضخمية هو أسلوب تلجأ إليه الشركات الرأسمالية حينما تستشعر بأن مستويات ربحيتها قد بدأت تميل إلى منحنيات الانخفاض، فتعمد إلى إعادة توليف آلية جديدة للأسعار تتوافق مع إمكانية استنهاض ورفع خط الهوامش الربحية مجدداً. وهذا ما يؤسّس إلى مرحلة انتقال الرأسمال العام من يد الدولة إلى يد أفراد القطاع الخاص، وبما يشبه الحالة الأوليغارشية الروسية أبّان حقبتي حكم الرئيسين يلتسين وبوتين. 

ولعل مفارقات انفلات الأسعار وتعدّي مؤشرها التضخمي 900 في المائة وعلى زيادة، أن انعكس على التركيبة الاجتماعية اللبنانية، والانقسام الحاد الذي يشهده المجتمع، وإلى بروز الفوارق الطبقية بأعمق أشكالها جرّاء تآكل إيرادات مداخيل الطبقات الشعبية والفروقات السلبية لأسعار الصرف، وتضاعف المكتسبات التي حقّقتها البورجوازية التجارية، وكأننا وسط مشهدية تشبه إلى حدٍ كبير غرق الباخرة "تايتانيك"، وتصوير مخرج الفيلم، جايمس كاميرون، التركيبة الاجتماعية للمجتمعات في بدايات القرن العشرين بفصل ركاب الباخرة حسب فوارقهم الطبقية، حتى وسط غرقها وتعالي أصوات طبقة الأرستقراطيين والملاّكين بفصلهم عن الطبقة البائسة في قوارب النجاة. 

ومع كل الاختناقات التي يشهدها الإقتصاد العالمي، والأزمة الروسية - الأوكرانية، والحروب التجارية بين الشرق والغرب... إلخ، والتي لا يمكن تجاهل آثارها على الإقتصاد اللبناني، إلّا أنّ أمراض الرأسمالية اللبنانية وعلى رأسها اتّحاد الطبقتين التجارية والسياسية معاً، تزيد الأمور حدّة بحيث لا يستطيع أحد أن يتنكّر من أنّها السرطان الخبيث الذي يعبث بالجسم الإقتصادي المحلي. 

لقد غرقت التايتانيك اللبنانية!

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".