الخطة: ودائع وإصلاحات وضرائب... وفَسِّر على ذوقك

26 أيلول 2022 09:41:44

يبدو انّ صندوق النقد الدولي ليس مرتاحاً للنص الجديد الذي قدّمته الحكومة على أساس انّه نسخة مُعدّلة لخطة التعافي التي تمّ الاتفاق عليها في نيسان. النقطة التي وضع عليها الصندوق علامة استفهام تتعلّق بالغموض الذي يكتنف كيفية معالجة موضوع الخسائر في القطاع المالي. وما هو دور الدولة في هذه المعالجة.

الغموض غير البنّاء، هو العنوان الذي يمكن وضعه لخطة التعافي التي ارسلتها حكومة تصريف الاعمال إلى المجلس النيابي للمناقشة. وإذا كان صندوق النقد مهتماً بشكل خاص بموضوع الخسائر، لأنّها بيت القصيد في مسألة الحفاظ على قدرات المالية العامة في الصمود في السنوات المقبلة، في حال بدأ تنفيذ برنامج التمويل مع الصندوق، فإنّ المشكلة تبدو اكبر وأوسع من منظار اللبنانيين. الواقع، انّ خطة التعافي هي أقرب إلى نصّ أدبي صيغ بإسلوب معقّد، بحيث لا يفهم من يقرأه «كوعو من بوعو». هذا النصّ يفتقد ثلاثة عناصر أساسية، لكي يصبح خطة: ارقام دقيقة، مواعيد مُعلنة وثابتة للتنفيذ، تعهدات واضحة وغير متناقضة.

وبموضوعية، هناك خمس نقاط اساسية كان يُفترض بالخطة معالجتها، وهي: الاصلاحات، الحماية الاجتماعية، السياسة الضريبية، انتظام المالية العامة، توزيع الخسائر تمهيداً لإعادة إطلاق عمل القطاع المصرفي.

هذه النقاط الخمس تشمل بطبيعة الحال مسألة الودائع وما يتصل بها من مسؤوليات يُفترض ان يتمّ توزيعها على الدولة ومعها مصرف لبنان، المصارف وأصحابها، ومن ثم المودعين.

في عملية تفنيد دقيق لما ورد في ما سُمّي خطة، للنقاط الخمس، يتبيّن مقدار الغموض والتسويف والعجن واللكن في الكلام، من دون ان تكون هناك دقة رقمية او زمنية (إلّا فيما ندر) وهي الأساس في أي معالجة جدّية لهذه المشاكل.

اولاً- في موضوع الاصلاحات، تكتفي الخطة بلمحات غير كافية، وتنقصها الدقّة بما يوحي بعدم جدّيتها. وعلى سبيل المثال، تتحدث الخطة عن» تجم?د التوظ?ف على مدى السنوات القل?لة المقبلة في القطاع العام كافة.» طبعاً، إلى جانب انّ مثل هذا القرار سبق وتمّ اتخاذه، ومن ثم رأينا إلى اين وصل، حيث تمّ توظيف اكثر من 5 آلاف شخص خلافاً للقانون، ولا يزالون في مواقعهم الوظيفية، وكان اللافت هذه المرة استخدام عبارة «السنوات القليلة المقبلة»، فكيف سيتمّ تفسير ذلك؟ 3 أو 5 أو 10 سنوات أو اكثر. كلها ينطبق عليها هذا التعبير الفضفاض. أو ان تقول الخطة انّه سيتمّ «ربط أي ز?ادة في رواتب موظفي القطاع العام بز?ادة في ا?نتاج?ة». هذه العبارة اصبحت مملة من كثرة تكرارها منذ عقود. كذلك تتمّ مقاربة ملف الكهرباء الأكثر حساسية بالطريقة الانشائية نفسها. إذ تتحدث الخطة عن ضرورة تنفيذ الخطة التي أُقرّت، وكأنّ المواطن منع الحكومة من تنفيذ خطتها. او ان يُقال انّه ينبغي تشكيل هيئة ناظمة ورفع تعرفة الكهرباء. وكأنّ البنك الدولي لا ينتظر منذ اكثر من 8 اشهر هذه الخطوات ولم تُنفّذ حتى الآن. أو كأنّ الموفد الفرنسي بيار دوكان لم ينتظر لسنتين تحقيق هذه الخطوة لبدء الافراج عن اموال «سيدر»، ولم تُنفّذ.

ثانياً- في موضوع الحماية الاجتماعية المطلوبة في الفترة المقبلة خلال تنفيذ برنامج التمويل، لا تحدّد الخطة أية اجراءات عملية، بل تتحدث عن «حما?ة ا?نفاق ا?جتماعي بما ف?ه قطاعا التعل?م والصحة، والتخف?ف من حدّة الفقر»... و»فسّر إذا فيك تفسّر».

ثالثاً- في موضوع السياسة الضريبية، تعلن الخطة بوضوح انّها ستبقي على الضريبة على ارباح الشركات كما هي (17%)، لكنها عندما تتحدث عن زيادة الضريبة على القيمة المضافة، والتي تطال المواطن مباشرة، فانّها تستخدم الغموض عبر القول: «من الممكن ز?ادة معدل الضر?بة على الق?مة المضافة الذي ?بلغ حال?اً 11 في المئة».

رابعاً- في موضوع انتظام المالية العامة، فحدّث ولا حرج عن الغموض الخبيث والمكشوف. وهنا تكتفي الخطة باستخدام حرف «السين»، والوعود على طريقة «ستسعى الحكومة إلى تقل?ص عجز الموازنة على المدى المتوسط» و» تعتزم خفض نسبة الد?ن إلى الناتج المحلي ا?جمالي بشكل تدريجي». أين الخطة في هذا الكلام؟ ألا يُفترض ان تحدّد نسبة العجز المستهدف، ونسبة التدرّج السنوي في هذا الخفض، والطريقة التي ستسمح بهذا الخفض؟

خامساً- في موضوع معالجة وتوزيع الخسائر، وهو الملف الأكثر حساسية، فإنّ الحل بالنسبة للحكومة هو في ان يكون هذا البند هو الاكثر غموضاً في نصّها الادبي الذي أسمته خطة. فهي تتحدث عن «معالجة الخسائر التي تكبّدها القطاع المالي بشكل عادل ومنصف». وما علينا لكي نعرف كيف ستفعل الحكومة ذلك، سوى أن نبحث في المعجم عن معنى عادل ومنصف!

واللافت انّ الخطة تعترف بالوقائع ثم تلتف عليها. فهي تعترف مثلاً، انّه «? ?مكن لمصرف لبنان في هذه المرحلة أن ?ع?د للبنوك مجمل ودائعها بالعم?ت ا?جنب?ة»، كما «? ?مكن للبنوك أن تع?د معظم اموال مودع?ها في الوقت الذي ?طلبونه وبالعملة ذاتها».

وبالإضافة إلى لغة العدل والانصاف في توزيع الخسائر، تلجأ الخطة إلى تعبير انشائي مطّاط، كأن تقول انّ المطلوب «حما?ة المودع?ن إلى أقصى حدّ ممكن». وما علينا سوى ان نفسّر معنى «أقصى حدّ ممكن» لكي نُدرك ما هي المبالغ او النسب التي سيحصل عليها المودعون.

وتلجأ الخطة إلى العبارة نفسها في مكان آخر، لتحديد حجم مشاركتها في تعويض الخسائر، فتقول انّها ستشارك «إلى أقصى حدّ ممكن في استعادة الم?ءة المال?ة لمصرف لبنان».

وطبعاً، تبقى مسألة كيفية التعاطي مع حقوق المودعين في المصارف التي قد تتمّ تصفيتها. وهنا ايضاً تبدو الخطة جازمة وواضحة في قرار حل المصارف التجار?ة غ?ر القادرة على ا?ستمرار». و»حما?ة جم?ع الحسابات لغا?ة مبلغ 100 ألف دو?ر، وهذا ا?مر مشروط بكفا?ة حجم أصول كل مصرف على حدة». وهنا الطامة الكبرى، حيث يتداخل الغموض بالخبث وتصبح اعادة الودائع بمعدل 100 الف دولار، غير مضمونة. كما انّ عدد المصارف التي قد تتمّ تصفيتها يصعب تقديره، طالما انّ مشاركة الدولة في تعويض الخسائر غامص إلى هذا الحد.

يبقى الخوف الأكبر، اننا ننتظر بفارغ الصبر توقيع اتفاق مع صندوق النقد لبدء مرحلة الخروج من الأزمة، لكن مع هذا الكمّ من الغموض والخبث والعجز، قد ننضمّ إلى لائحة الدول «المضروبة»، والتي تتعاون مع صندوق النقد، وتحصل على برامج تمويل وقروض متتالية، لكنها باقية في دائرة التعثر والفقر والتعتير منذ عقود، وقد تبقى كذلك.