Advertise here

تغييرات جوهرية في المزاج الدولي العام

19 أيلول 2022 07:45:00

شهدت العلاقات الدولية تحولات هائلة منذ شهر شباط الماضي. ويمكن القول إن العالم عاش دورة مُساكنة سياسية وعسكرية كاملة على مدى ثلاثين عاماً، ولم تؤدِ أي من التباينات أو الخلافات بين الدول الكبرى إلى توتر كبير، كما لم يشعر العالم بأن أياً من حوادث العقود الثلاثة الماضية وصل إلى حد التهديد الشامل للسلام العالمي، ولم يصل الوضع إلى تبادل التهديدات النووية، كما هي عليه الحال اليوم، رغم أن دورة المساكنة التي أعقبت انفراط الثنائية القطبية، شهدت حروباً عسكرية وازنة، لا سيما منها في يوغوسلافيا السابقة وفي أفغانستان وفي العراق وفي ليبيا وجورجيا وغزوة القرم عام 2014.
 
قبل أن تبدأ الحرب الأوكرانية في 24/2/2022؛ ارتفعت لهجة التهديد والوعيد بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأميركية وبعض حلفائها الأوروبيين من جهة أخرى، وبدا المشهد قاسياً وغير مألوف، ومن ثم دخلت روسيا إلى بعض المناطق الأوكرانية، وتعاملت القوى الغربية مع الحرب كأنها غزوة روسية لكامل أوروبا، رغم أن موسكو تتعامل مع هذه الحرب كأنها شأن داخلي روسي، وترى في ردود الفعل الخارجية مبالغة كبيرة، أو أنها تدخُّل في شؤونها الداخلية.
 
مهما يكُن من أمر، وبصرف النظر عن الاجتهادات الدبلوماسية والاستخبارية لكلا الفريقين؛ فإن تغييرات جوهرية حصلت على مستوى العلاقات الدولية، والانقسام العمودي بين القوى الكبرى واضح للعيان، ويمكن القول إن فرزاً أفقياً حصل بين دول العالم، لكن عدداً من الدول تمكنت من تجنُّب الاصطفافات الجديدة، لأن مصالحها تفرض عليها النأي بالنفس عن الصراع القائم، ّو تجنُب الانخراط في أي من المحورين القائمين، بما يُشبه مرحلة خمسينات القرن الماضي، حيث ولدت حركة عدم الانحياز عام 1955 في باندونغ في إندونيسيا على وقع الانقسام الدولي بين المعسكر الغربي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الشرقي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق.
 
من الواضح أن الدول العظمى اليوم خرجت من مربع المساكنة السياسية، وبدأت اعتماد سياق انقسام محوري فيه حرب باردة فعلية، وفيه بؤرة توتر أوكرانية ساخنة، تشبه ما كان عليه وضع كوبا في ستينات القرن الماضي، اذ كادت بسببها تندلع حرب نووية شامله بين موسكو وواشنطن عام 1963، وهذه البؤرة مرشحة للتوسُّع، والمُماحكات التي تجري حول جيب كالينينغراد الروسي في أقصى الشمال الشرقي لأوروبا تهدد باندلاع مواجهات جديدة في أي لحظة.
 
والتعامل في ملف النفط والغاز يؤكد غياب سِمة التسامح بين المعسكرين المتقابلين. فروسيا التي تعاملت في السنوات الماضية مع الاتحاد الأوروبي كشريك اقتصادي استراتيجي، وغيَّبت كل أشكال المناكفة والعداء بينها وبين معظم الدول الأوروبية، هي ذاتها تفرض حصاراً نفطياً وغازياً قاسياً على أوروبا، بما في ذلك على ألمانيا التي موَّلت بواسطة شركاتها خطوط الجرّ الجديدة التي تنقل النفط والغاز الروسيين إلى أوروبا، وفي ذلك سببت موسكو أزمة غير مسبوقة لدول الاتحاد، وساهمت في تراجع قيمة الأورو قياساً للعملات الدولية الأخرى.
 
في المقابل، فإن الدول الأوروبية، ومنها فرنسا وألمانيا اللتان حرصتا على إبقاء التواصل الدبلوماسي مع موسكو؛ تهيبت الموقف، واعتمدت سياسة جديدة مع موسكو، لا ترتكز على سمات الصداقة والتعاون، بل إنها تتعامل بواقعية تجارية تعتمد على براغماتية مصلحية، كونها تحتاج إلى الغاز الروسي، وهي تفتش في الوقت نفسه عن بدائل لهذا الغاز في الأسواق الدولية الأخرى. ولا يبدو أن أوروبا بوارد وقف العقوبات ضد موسكو قبل أن تنتهي الحرب في أوكرانيا، مهما اشتدت الضغوط النفطية الروسية عليها.
 
ويتأكد التغيير الكبير في المزاج الدولي العام من خلال مقررات قمة دول حلف شمالي الأطلسي الأخيرة التي عقدت في 27 حزيران 2022، فهي قبلت طلب عضوية السويد وفنلندا الجارتين لروسيا، واعتمدت خطاباً سياسياً عدائياً لموسكو، يختلف اختلافاً جذرياً عن الخطاب الذي تبنته قمة الحلف في لشبونة في تشرين الثاني 2010، إذ قالت في حينها إن روسيا ليست عدوة للحلف.
 
وعلى الضفة الأخرى من الانقسام الدولي الجديد؛ يأتي التوتر الواسع الذي يحصل في شرق آسيا، وما يرافقه من تحركات سياسية وعسكرية في جزيرة تايوان وحولها، وقد حبس العالم أنفاسه قبل ساعات من هبوط طائرة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي في مطار العاصمة التايوانية مطلع آب الماضي، بعدما اعتبرت بكين زيارتها تهديداً مباشراً لها، وتدخلاً في شؤون الصين الداخلية، لأنها تعتبر الجزيرة جزءاً من التراب الوطني الصيني، بصرف النظر عن الحكم الذاتي التي تتمتع فيه الجزيرة منذ الانسحاب البريطاني منها في عام 1997.
 
الصين وروسيا تقاربتا الى حدود بعيدة بعد هذه التطورات، ويمكن القول إنهما تؤسسان لمحور دولي مقابل للمحور الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية. لكن الواضح أن الصين ما زالت تتجنب الثلوج في هذا الخيار الراديكالي، وهي تنتظر استرخاءً دولياً جديداً، يكفل لها استمرار التعاون التجاري مع شركائها الأقوياء في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. وهي كانت تتجنَّب أي خصام مع واشنطن وأوروبا بسبب مصالحها التجارية الكبيرة معهما؛ لكن فترة التروي الصيني ليست مفتوحة لزمنٍ طويل.

تغييرات جوهرية حصلت على مستوى العلاقات بين الدول الكبرى، ما يهدد بحرب باردة جديدة، أو بحرب شاملة مدمرة لا قدر الله.