الطائفية في مواجهة المواطنة

09 أيلول 2022 11:22:34

عند كل أزمة مفصلية تحل بلبنان تبرز الى الواجهة الآراء والدراسات التي تحاول تفسير سبب أو مصادر تلك الأزمة. ومما لا شك فيه أن النظام الطائفي يحتل مرتبة متقدمة ضمن هذه الأسباب والمصادر إن لم نقل أنه يتصدرها. وعلى الرغم من توافق معظم المرجعيات الداخلية على مساوئ هذا النظام، وإن كان توافقاً في الشكل لا في المضمون، إلا أن مسألة إلغائه تنقسم حولها الآراء بين مؤيد ومعارض ولكل أسبابه وحججه التي تتنوع بين السياسي والإجتماعي والواقعي وغيرها وحتى الشخصي في بعض الأحيان.
بداية لا بد من التذكير بمضمون وثيقة الوفاق الوطني، التي تم التوافق عليها في مؤتمر الطائف، والتي أقرت بضرورة إلغاء الطائفية السياسية، وكذلك الأمر في دستور الطائف الذي أكد في مقدمته على هذا الهدف، وأتت المادة 95 منه لتنص على الغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية وغيرها باستثناء وظائف الفئة الأولى حيث بدورها (المادة 95) أثارت النتاقضات لناحية إلغاء وتكريس الطائفية في آن معاً.
وإذا أردنا الغوص في الأصول التاريخية للنظام الطائفي لعدنا الى العام 1845 ونظام القائممقاميتين ومن ثم نظام المتصرفية وصولاً الى إعلان دولة لبنان الكبير وما تلى ذلك في زمن الإستقلال، انتهاء باتفاق الطائف، لأدركنا بأن هذا النظام الطائفي تعود جذوره الى أكثر من 170 سنة .
هذا النظام الطائفي أدى الى اعتماد ما يسمى "بالديمقراطية التوافقية"، وهي بدورها وفقاً لتعريف أساتذة العلوم السياسية أمثال آرند ليبهارت Arned Lijphart وجيرارد لامبروخ Gerhard Lembruch ، هي القدرة على تخطي النزاعات والإنقسامات في الأنظمة والدول المركبة ذات المجتمعات التعددية (دينية، اثنية، ثقافية، عرقية، سياسية) من خلال التعاون السياسي لإيجاد حل للإنقسامات داخل المجتمع الواحد. ومن النماذج الناجحة في تطبيق هذا النظام نذكر بلجيكا وهولندا وسويسرا.
أما في بلدان العالم الثالث بشكل عام وفي لبنان بشكل خاص، فإن الديمقراطية التوافقية ليست سوى عنواناً لتكريس نظام طائفي مقيت، يتسم بانعدام المساواة وانعدام العدالة وهدم مبدأ تكافؤ الفرص، بحيث تحجب المناصب والمراكز عن طائفة وتكرس لطائفة أخرى. وأصبح معيار الإنتماء الطائفي هو المعيار الأول عوضاً عن الكفاءة. وحق "الفيتو" (Veto) مبني على مصالح طائفية أو فئوية أو حتى شخصية ضيقة في بعض الأحيان عوضاً عن أن تكون المصلحة العامة هي الدافع الأول.
فبدلاً من أن يكون هذا النظام أداة لتحقيق الإنصهار الوطني وحفظ حقوق الأقليات، أصبح نظاماً لزايدة الشرخ الطائفي ووسيلة أساسية لتعطيل قيام الدولة الحقيقية. بحيث أضحى المعيار الطائفي هو المرتكز الوحيد لإدارة الدولة بدءاً من انتخاب رئيس الجمهورية مروراً بقانون منح الجنسية وصولاً الى تعيين حرّاس أحراش.
والفارق ما بين تجربة الغرب وتجربة لبنان هو "المواطنة". فالديمقراطية التوافقية المبنية على المواطنة الحقيقية أنتجت دولاً متطورة ومزدهرة. في حين ديمقراطية لبنان أغرقته في الإنقسامات والعصبيات والتعطيل المستمر بحجة حقوق الطوائف، الأمر الذي أدى الى الإنهيار الذي نعيشه اليوم. وللمفارقة فبدلاً من خروج مبادرات لتوحيد كافة الفئات اللبنانية نجد هناك من يسعى الى تعزيز الإنقسام عبر طرح الفيدرالية الطائفية.
إن مسألة الغاء الطائفية السياسية شكلت موضوع انقسام في الماضي كما الحاضر، فمن يعارض الإلغاء ينطلق من مبدأ أساسي وهو مبدأ "تكريس سيطرة الأقوى" الذي يسعى اليه الطرف القوي ويخشاه الطرف الضعيف لا سيما في ظل هذا الخلل الكبير في ميزان القوى الداخلية، وفي هذا السياق يبرز رأي للإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين الذي اعتبر فيه أن الغاء الطائفية في لبنان مغامرة وجب التحذير منها للشيعة وباقي الطوائف على السواء لما في ذلك من تهديد للإستقرار الداخلي، معتبراً أن النظام الطائفي في لبنان هو في حاجة لتعديل لا الغاء.
ومن ناحية أخرى هناك جهود كبيرة بذلت من مرجعيات وطنية كثيرة في سبيل الخروج من هذا النظام الطائفي والتوجه الى دولة المواطنة ومن أبرزهم الزعيم الشهيد كمال جنبلاط الذي سعى جاهداً لإبراز سلبيات هذا النظام والدعوة لإلغائه مراراً وتكراراً لا سيما في البرنامج المرحلي للحركة الوطنية الذي ما زال يعتبر خارطة طريق للعبور نحو لبنان الدولة الحقيقية.
 
عدم الإجماع هذا يدفعنا الى طرح المسألة من زاوية موضوعية وواقعية، لا من منطلق شعارات منبرية أو شعبوية أو أحلام ثورية ، أو لا قدّر الله من منطلق تمرير رسائل تهديد أو تخويف لطوائف تخشى خسارة بعض المكتسبات التاريخية.
لا قيام للبنان الدولة ما لم يكن المعيار الأول والأخير هو المواطن الإنسان، لا الفرد العدد. فالأكثرية هي أكثرية الرأي لا أكثرية الأرقام. ليس هناك من امكانية لإلغاء نظام متجذر منذ 170 سنة أو أكثر إلا عبر خطوات عملية، فمشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، والخطوات يجب أن تكون واقعية ومنطقية تمهد الطريق نحو تحقيق المواطنة الحقيقية، ومنها:
• الإنماء المتوازن.
• نظام تربوي حديث ومتوفر للجميع ولكافة المناطق بصورة متساوية.
• قانون اتخاب عادل.
• قانون أحوال شخصية مدني إختياري.
• نظام توظيف عادل قائم على مبدأ الكفاءة.
• اصلاح اداري حقيقي.
• استقلال قضائي.
...الخ
أي باختصار لا يستطيع لبنان الخروج من الدوامة التي يعيشها باستمرار إلا عبر تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والسياسية، فتغيير الواقع عبر خطوات مدروسة ومتتالية ستؤدي حتماً الى تغيير ما بأنفس القوم، عندها يصبح الغاء النظام الطائفي نتيجة حتمية لا مفر منها، وتصبح الدولة القوية المستقرة المزدهرة هي الراعي الأول والأخير للمواطن .
الطائفية والمواطنة ضدان لا يجتمعان، ولن يتمكن لبنان من تحقيق التوازن الداخلي ما دامت مسألة الغاء الطائفية السياسية ما زالت تطرح من منطلق تحقيق مكاسب لطائفة على حساب أخرى. المطلوب بعض من المثالية وكثير من الواقعية للعبور الى شاطئ الأمان.