Advertise here

ميخائيل غورباتشوف ضحية لعنتين: لعنة تسريع التاريخ ولعنة إبطائه

05 أيلول 2022 16:14:05

لا يوجد في العصر الحديث شخصية ذات إشكالية كبرى في التقييم كشخصية الرئيس السوفياتي الراحل  منذ أيام ميخائيل غورباتشوف. ففي حين رأى فيه  بعضهم رجلاً تاريخياً  غيّر العالم، رأى آخرون أنّه كان عميلاً  دمّر بلده وساهم في انهياره، وحوّله من دولة عظمى إلى دول ركيكة وهشة. لكن بين هذا وذاك كثيرة  هي المقاربات الرصينة والموضوعية التي تغوص في الأسباب الحقيقية لانهيار الاتحاد السوفياتي، وتقدم لغورباتشوف أسباباً تخفيفية، أو تبريرات للأخطاء التي ارتكبها  خلال فترة حكمه التي لم تتعدَ السنوات الست. 

 جاء غورباتشوف إلى رأس السلطة بعد زمنٍ طويلٍ من الركود السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتفشي الفساد والمحسوبيات في مفاصل النظام الذي ابتعد عن الشعارات الأساسية، المتمثّلة بالاشتراكية والمساواة  والكفاية والعدالة الاجتماعية، فضلاً عن تحوّله إلى أداةٍ قمعية عملت على إزالة الخصوم، وتصفية الحسابات مع "الرفاق"، قتلاً وسجناً ونفياً، وجعلت موت  الزعيم المبرّر الوحيد لتداول السلطة.   

وهكذا بعد سنين طويلة من حكم بريجنيف، واستشراء الفساد في بنية النظام، حلّ مكانه  بعد وفاته أندروبوف، رجل المخابرات الحازم الذي لم يدم حكمه أكثر من سنة، إذ توفي بسبب المرض. ثمّ جاء تشيرنينكو العجوز والمريض أصلاً، فتوفي كذلك بعد سنة، وتحوّلت الساحة الحمراء إلى مسرح تأبيني بنسخة سنوية طبق الأصل لجنازات القادة الراحلين، ولم يعد ممكناً المجيء بشخصية من الحرس القديم (وكلهم من المسنّين)، بل بات لزاماً على النظام تقديم شخصية شابة وواعدة  بالإنقاذ للخروج من الأزمات  العميقة التي كانت تتخبط فيها البلاد. هنا يكمن السر الكبير والخفي في كواليس الكرملين، الذي جعل الخيارات ترسو على غورباتشوف. 

كل ذلك كان في ظل  الأزمة الاقتصادية الكبرى التي كان يعاني منها الاتحاد السوفياتي، وغرقه في وحول أفغانستان، وعجزه عن مجاراة الولايات المتحدة في سباق التسلح وما كان يعرف بحرب النجوم، بالإضافة إلى تململ  وتذمّر الشعوب في أوروبا الشرقية، والذي كان قد بدأ مع خنق ربيع براغ، وانتفاضة بودابست، قبل عقود، وصولاً إلى التمرد على السلطة في بولندا، خاصةً بعد وصول  البابا يوحنا بولس الثاني، البولندي الأصل، إلى الفاتيكان. بهذا المعنى يبدو مجيء غورباتشوف أشبه ما يكون ب "الكاتاليزير" في العملية الكيميائية، أي المحفّز على حدوثها، والذي لولاه لما كانت، ربما، لتحدث.

لم يمضِ وقت طويل حتى أيقن  غورباتشوف أنّه بات أسيراً لكل ما هو حوله، فهو أسير الحرس القديم يسير معهم كأنّه في حقل ألغام، وأسير مستشارين جدد وقف معظمهم على أقصى يمينه مطالبين  بضرورة التغيير، ومقدّمين الهندسات والبرامج المختلفة.

بين مطرقة أولئك وسندان هؤلاء بدأ غورباتشوف مشروعه الإصلاحي مع  إعلان البيريسترويكا، أي إعادة البناء،  من جديد. كانت الكلمة  حتى لغوياً حمّالة أوجه. فهمها الراديكاليون على أنّها تجديد للقديم دون تغييره، وفهمها الليبراليون على أنّها تقويض للقديم والبدء من الصفر. كان غورباتشوف في تلك المرحلة الحاسمة من عمر النظام  شديد الحنكة في إرضاء الفريقين، وإن على مضض صامت من الحرس القديم ، وعلى سرورٍ خفي من حاملي لواء التجديد والتغيير، المدعومين سراً في البداية وعلناً بعد حين من  دوائر الغرب. 

كان الخطأ الأول في البيريسترويكا إسقاط الافتراضات والتحاليل والتأويلات مباشرة  من عالم النظريات على الواقع الشديد التعقيد، ودفعة واحدةً، على مساحة دولة مترامية الأطراف بحجم قارة، فبدت  المهمة براقة المظهر، ملتبسة  المضمون، مشوبة بالتخبط والغموض والارتجال، تعتمد أسلوب التجربة والخطأ، وتصوّب الدعسات الناقصة بقفزات في المجهول.

 بعد عامين بدا واضحاً أنّ ما يجري هو في الحقيقة تفكيك المبني، وليس إعادة بنائه. وبقدر ما كان هذا التفكيك مؤلماً، كان غياب البديل المنتظر أشد إيلاماً، فتوقف الاقتصاد والإنتاج وتعثّرت الإدارة، وتمّ استبدال كوادر هامة في القطاعات الإنتاجية المختلفة بوجوهٍ شابة جديدة قليلة الخبرة ومتعددة الأهواء، فلاحت في الأفق نذر الانهيارات الكبرى، وبات واضحاً أنّ كل ما يجري ليس سوى ترقيع لثوب بالٍ، أو عملية إنجاب لكائنٍ هجين لا فرصة له  في  الحياة. 

أمّا الخطأ الثاني فكان إطلاق ما سُمّي بالغلاسنوست  بموازاة البيريسترويكا، دون انتظار مفاعيل الإصلاح السياسي والاقتصادي الموعود. والغلاسنوست تعني  لغوياً المجاهرة العلنية وحرية  التعبير عن الرأي، مع الحق بالاختلاف.

 كانت الغلاسنوست النقرة  الأولى على أحجار الدومينو، فطفت على السطح التناقضات القومية والعرقية والإثنية في امبراطورية فسيفسائية التركيب، فبدأت القلاقل من البلطيق وأطلّ برأسه الصراع الأرمني - الأذري حول إقليم ناغورني كاراباخ، وكرت السبحة… بالموازاة كان الانهيار التدريجي لحلف وارسو، وسقوط جدار برلين، وتوحيد ألمانيا، والسقوط المتلاحق للأحزاب الشيوعية الحاكمة نذيراً  بانهيار  الدولة الأم من الداخل.

وهكذا كان تقديم السياسي على الاقتصادي، والحرية على الرغيف،  بمثابة صواعق تفجير للنظام، دون إغفال تدخلات الاستخبارات العالمية، واختراق الكرملين وكواليسه،  الأمر الذي سرّع  بالانهيار. 

أضِف إلى كل ذلك وقوع غورباتشوف أسير لعبة الإعلام، حيث بات هاجسه الحفاظ على "الإيميدج" الشخصي، والتركيز على ما سيكتبه التاريخ عن ذاته وتجربته ودوره، ثمّ جاء منحه جائزة نوبل للسلام  عام 1990 ليكرّس ذلك فوقع أسير أحلامه وأوهامه. 

لكن استفاقة الحرس القديم، وإعلان  الانقلاب على غورباتشوف، ومحاولة عزله في آب 1991، جاءت متأخرةً كثيراً وعبثية، وحتى دونكيشوتية، في ظل نظام لا يمتلك آليات ترميمه الذاتي  وتجدّده، خاصة بعد فوات الأوان.

بالمقابل، أتت استقالة غورباتشوف مختلفة عن  سائر الاستقالات المعهودة وكانت بمثابة إعلان نهاية نظام، ورسالة نعي لدولة بحجم امبراطورية  كشفت الأيام  تباعاً أنّه كان أشبه بزلزال لا تزال هزّاته الارتدادية مستمرة، وما الحرب الروسية - الأوكرانية  التي نشهدها في هذه الأيام سوى واحدة منها، حيث شاءت الأقدار ألّا يموت غورباتشوف قبل أن يكون شاهداً عليها، ربما كي يتجرع كأس الندم الذي ظل ينفيه مكابراً، متسلحاً بحسن نيّته وسوء نوايا خصومه من جهة، وبمسار التاريخ من جهة ثانية، هذا التاريخ الذي حجز له مكاناً  مضموناً  مع صفحة غامضة.