لا يكاد يمر يوم في لبنان من دون تسجيل حوادث سير مميتة في بلد تتراجع مقوماته الاقتصادية والاجتماعية يومياً، بحيث تجتمع عوامل عدّة لتتحول إلى مأساة تحصد عدداً كبيراً من القتلى، معظمهم من الشباب.
وفيما يرى الخبراء أن الواقع هو أخطر مما تظهره الأرقام غير الدقيقة أصلاً، يؤكدون أن أسباب هذه المأساة المتنقلة على طرقات لبنان قديمة جديدة يضاف إليها في المرحلة الأخيرة، اهتراء الدولة ومؤسساتها واقتصادها الذي انعكس على حياة المواطنين بشكل مباشر وغير مباشر، إذ إن المشكلة الأساسية تكمن في إهمال الدولة لهذا الملف وعدم تطبيق قانون السير من قبل المسؤولين والوزارات المعنية، وأضيفت إليها اليوم عوامل جديدة منها إلغاء المعاينة الميكانيكية وعدم قدرة المواطنين على صيانة سياراتهم أو تبديلها بعد الارتفاع غير المسبوق لأسعارها وأسعار قطعها فكانت النتيجة مزيداً من الحوادث والضحايا.
وتمثل حالة أحمد (60 عاماً) نموذجاً لواقع اللبنانيين وأوضاعهم، فهو يتحدث بصراحة عن عدم قدرته على صيانة سيارته المعطلة ما جعله يتخذ قراراً بإيقافها واللجوء إلى القديمة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «أملك سيارتين واحدة قديمة تعود لعام 1996 كنت خصصتها للرحلات الجبلية وواحدة تعود لعام 2004، لكن للأسف تعطّل محرّك الأخيرة وبات يحتاج إلى مبلغ ألف دولار لإصلاحه، فما كان أمامي إلا اتخاذ قرار بإيقافها تمهيداً لبيعها والعودة إلى القديمة التي يفترض أن تفي بالغرض المطلوب، مع علمي المسبق أنها قد تكون بدورها عرضة لأي عطل طارئ في أي لحظة وعندها سأصبح من دون وسيلة نقل».
وإذا كان حادث الفنان جورج الراسي الذي أدى إلى مقتله ومقتل مديرة أعماله قبل نحو أسبوع على الطريق الحدودية بين لبنان وسوريا، برز إلى الواجهة لكونه فناناً معروفاً، وأعاد الحديث عن مشكلة الطرقات وقضية حوادث السير في لبنان، فإن مآسي كثيرة مماثلة تعيشها عائلات لبنانية بشكل شبه يومي لكنها تبقى بين جدران المنازل وبعيدة عن الأضواء.
وهذا الأمر يشير إليه الخبير في إدارة السلامة المرورية كامل إبراهيم، لافتاً إلى أن الأرقام الأولية تظهر سقوط أكثر من 210 قتلى منذ بداية عام 2022 حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، في وقت سجّل فيه خلال الأيام الأربعة الأخيرة وحدها نحو 20 قتيلاً. وفيما يؤكد أن هذه الأعداد ليست إلا مؤشرات تعكس واقع السلامة المرورية في لبنان، يذكّر بأن منظمة الصحة العالمية تلفت إلى أنه نظراً إلى عدم وجود قاعدة بيانات دقيقة وموثوقة في لبنان حول عدد القتلى نتيجة حوادث السير تعتبر أن التقديرات تقارب الألف قتيل سنوياً.
وكان وزير الأشغال العامة علي حميه أقر بأن كل طرقات لبنان تعاني من مشكلات، مشيراً إلى أن موازنة وزارته تبلغ 39 مليار ليرة، أي نحو مليون دولار فقط، وتعهد في الوقت عينه بأنه «لن يقف مكتوف الأيدي أمام كل حوادث السير التي تقع في لبنان». وقال: «هناك ثلاثة أركان تكون عاملاً أساسياً في حادث السير، هي الطرقات ثم السائق ثم السيارة».
وعن هذه القضية، يتحدث الدكتور زياد عقل، رئيس جمعية يازا الدولية (التي تعنى بالتوعية من حوادث السير في لبنان) بالقول لـ«الشرق الأوسط»: «مع نهاية شهر أغسطس نعيش في لبنان مأساة كبيرة على طرقات لبنان، وأحد أبرز الأسباب التي أدت إلى زيادة عدد الحوادث وبالتالي عدد القتلى هو عدم القدرة المالية لدى الناس لصيانة سياراتهم وسوء إدارة الملف، كما عدم قيام وزارة الأشغال والبلديات بصيانة الطرقات إضافة لعدم تطبيق القانون»، من هنا يختصر الواقع بالقول «نحن اليوم نعيش مشكلة حوادث السيارات بكل أسبابها، لناحية عدم جودة الطرقات إضافة إلى نقص بالتوعية وعدم تطبيق نظام السير وإذا بقي الواقع كما هو فسنكون أمام ارتفاع إضافي للحوادث في المرحلة المقبلة».
ويوضح الخبير كامل إبراهيم لـ«الشرق الأوسط» أن المشكلة الأهم تكمن في عدم إيلاء الدولة ومسؤوليها أهمية لحوادث السير التي تجاوز عدد ضحاياها في أقل من عام واحد عدد القتلى في انفجار مرفأ بيروت، وذلك عبر العمل على تطبيق قانون السير الذي نص على ضرورة إنشاء جهة قيادية تعمل على السلامة المرورية، في حين أن المجلس الوطني للسلامة المرورية الذي يرأسه رئيس الحكومة لم يجتمع ولا مرة خلال ولاية كل من رئيسي الحكومة حسان دياب ونجيب ميقاتي، والأمر نفسه بالنسبة إلى اللجنة الوطنية للسلامة المرورية التي يرأسها وزير الداخلية ويشارك فيها عدد من الوزراء المعنيين، فهي أيضاً لم تجتمع منذ أكثر من سنة».
وفي وقت يشير فيه إبراهيم إلى أن «غرفة التحكم المروري» التي يفترض أنها تتابع حوادث السير سبق لها أن تهدّمت في انفجار بيروت من دون أن يتم إصلاحها حتى الآن، وعناصر الأمن يقومون بمهمتهم بأدنى المقومات الطلوبة، يلفت إلى الأسباب المستجدة التي تسهم في زيادة عدد الحوادث والمتوقع أن تتضاعف في فصل الشتاء، وهي على سبيل المثال غياب محاضر ضبط السرعة وإشارات المرور على الطرقات كما تراجع عمليات صيانة الطرقات. ويتوقف إبراهيم عند قرار الدولة بوقف العمل بما يعرف بالمعاينة الميكانيكية السنوية التي كانت تتطلب مراقبة دورية للسيارة عبر المحافظة على معايير معنية، وهو ما أدى إلى زيادة المخاطر من وقوع حوادث السير.