Advertise here

أي رئيس للبنان؟

29 آب 2022 08:00:00

أيام قليلة تفصلنا عن بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للبنان، وقد استنفذ معظم المعنيين جهدهم في وضع تصوراتهم ومواصفاتهم للرئيس المقبل، وأجمعوا بغالبيتهم على أن لا يكون هذا الرئيس امتداداً للعهد القوي أو شبيهاً له، باستثناء "حزب الله" الذي صنع هذا العهد ودعمه ويمنّي النفس بأن يصنع شبيها أو امتداداً له.

وبالتأكيد، فإن "التيار الوطني الحر" عمل ويعمل جاهداً على أن تكون له الكلمة الفصل في صناعة العهد الجديد، لاسيما وأنه قد استنفذ السنوات الست الماضية في محاولة تعبيد الطريق أمام رئيسه جبران باسيل لكي يكون "الخليفة" الموعود، لكن أوراقه احترقت جميعها ولم يعدم أي وسيلة لتحقيق هذا الحلم دون جدوى، حتى الآن.

وما يقال عن "التيار" يقال عن حزب "القوات اللبنانية" الذي يقود رئيسه الدكتور سمير جعجع حملة مواجهة مخطط الاتيان برئيس ينتمي إلى محور الممانعة، وهو ربما يحاول بذلك التعويض عن الخطأ الجسيم الذي ارتكبه في دعم وصول الرئيس ميشال عون إلى بعبدا وقد اعترف بذلك مرات عديدة.

ولأن الميثاق الوطني نصّ على أن يكون رئيس البلاد من الطائفة المارونية، فإن كرسي البطريركية المارونية في بكركي في مقدمة المعنيين بإيجاد رئيس يحظى بقبولها وقبول سائر "الشركاء" في الوطن، ومن هنا كان البطريرك بشارة الراعي أول من وضع مواصفات للرئيس العتيد بعدما اختبر الفشل الذريع الذي وقع فيه "الرئيس القوي" وما تركته ممارساته "الهجينة" من ضرر على البلاد والعباد وأوصلتهم ليس إلى "جهنم" فحسب كما وعد، بل إلى "قعرها" ما يحتم إيجاد رئيس قادر على انتشال لبنان مما وصل إليه.

وكان الراعي دعا في عظة ألقاها من مقره الصيفي في الديمان الشهر الماضي إلى "انتخاب رئيس متمرس سياسياً وصاحب خبرة، محترم وشجاع ومتجرد، رجل دولة حيادي في نزاهته وملتزم في وطنيته، ويكون فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب، ولا يشكل تحدياً لأحد، ويكون قادراً على ممارسة دور المرجعية الوطنية والدستورية والأخلاقية، وعلى جميع المتنازعين الشروع في وضع البلاد على طريق الإنقاذ الحقيقي والتغيير الإيجابي".

وقد أسقطت مواصفات البطريرك معظم الطامحين الرئاسيين التقليديين ولم يبق فوق "غرباله" أحد منهم. كما أن مواصفات الرئيس العتيد وضعها رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط الذي عبّر أكثر من مرة عن عدم قبوله السير برئيس تحدّ، رافضاً السير بالمرشحين المعلنين الرئيسيين أي سمير جعجع، جبران باسيل وسليمان فرنجية، الأول في ظل رفض تحالف 8 آذار وعواصم خارجية له، والأمر نفسه ينطبق على النائب جبران باسيل الذي تعارض وصوله قوى 14 آذار وبعض قوى 8 آذار وخصوصاً الرئيس نبيه بري وعواصم إقليمية ودولية، فيما فرنجية الذي يجاهر بصداقته لرئيس النظام السوري والتزامه بسياسات محور المقاومة يجعله بشكل ما طرفاً منحازاً وغير حيادي.

كما أوحى جنبلاط بأنه يعارض الإستمرار في مسلسل إنتخاب قادة الجيش رؤساء للجمهورية، قائلاً في حديث إلى صحيفة "لوريان لوجور": "نحتاج اليوم الى الياس سركيس آخر لإدارة الأزمة، لا خلافات له مع القوى الرئيسة في البلاد، وبما يسمح بفتح قنوات التواصل مع العواصم العربية والدولية".

وعلى عاتق الرئيس العتيد أن يبدأ بدفع المواطن اللبناني إلى أن يطمئن إلى يومه وغده، وأن لا يعود يقلق على مصير أولاده لجهة توفير الحقوق الأساسية وتوفير الضمانات والنفقات الحياتية كالطبابة والاستشفاء والتعليم وضمان الشيخوخة والحد من البطالة وتأمين الخدمات العامة التي جميعها فقدت على يد فريق العهد القوي ورئيسه، بحيث أن تسليم الحكم الى فئة حزبية يعني تسخير المقدرات والادارة وسوء استعمال السلطة إلى الفريق الحزبي، وهذا ما شهدناه طيلة السنوات الست الماضية.

إذاً، لبنان يحتاج اليوم إلى رئيس يملك مشروعاً اقتصادياً، اجتماعياً نهضوياً لكي يعيد بعض الثقة بالدولة ومؤسساتها إلى الشعب أولاً، ومن ثم إلى المجتمعين العربي والدولي، وأن لا تكون السياسة هاجسه ولا أن يضع الانتقام مساراً له كما فعل هذا العهد، ثم أن لا يكون إلغائياً وأن يكون قد تعلّم من عبر ودروس تاريخ لبنان الذي بات واضحاً فيه أن لا فريق بعينه قادر على الحكم وحده، بل أن يحترم الدستور ويكون حكماً وليس طرفاً، ولهذه الأسباب وغيرها قد تكون المواصفات التي وضعها غبطة البطريرك، معطوفة على نظرة جنبلاط إلى الرئيس العتيد متقاطعة حول ضرورة البدء بإيجاد مثل هذا الرئيس للانخراط في مشروع إعادة بناء الدولة ومؤسساتها.

إن الرئيس العتيد والذي أراد جنبلاط تشبيهه بالياس سركيس، إنما ينبع من احترام لشخصية الرئيس الراحل الذي كان متمسكاً بالدستور وحرص على تطبيقه وعدم تكليف مستشارين للاجتهاد في تفسيره، وجاء من مدرسة الشهابية التي كان ملتزماً بها سواء في الادارة أو الاقتصاد أو التشدّد في منع التصرف بموجودات لبنان، وكان عفيفاً ونظيف الكف، وهذا الرئيس لا شك أنه موجود بين أبناء الطائفة المارونية الكريمة، لكن على البعض، وأشدّد على البعض، أن لا يعتبر نفسه أن "الله خلقه وكسر القالب" وأن الرئاسة لا تليق إلا به، وأنه المرشح الطبيعي للوصول إلى بعبدا، بل على هذا البعض أن يمدّ يده إلى الفرقاء الآخرين كافة الحريصين على إعادة بناء الدولة وقيامها من كبوتها، وأن يكون مقتنعاً بأن ديمومة الوطن واستمرارية وجوده على أسس صلبة ومتينة من خلال انتخاب رئيس غير فئوي وحكم نزيه، قد تتيح له المجال مستقبلاً أن يكون رئيساً عندما تعود الأمور الحياتية والمالية والاجتماعية إلى نصابها.

لبنان على وشك توديع رئيس العهد القوي وانتظار خروجه من قصر بعبدا، وعلى الرغم من الويلات التي أصابت البلد نتيجة سوء إدارته أو تسليم أموره إلى من لا يحسن تسلّم الأمور، فإن القول المأثور "المسامح كريم" يصح فيه قبل غيره، لكن عليه أن يرحل في اليوم الأخير من ولايته الدستورية وأن لا يستسلم إلى رغبات من يدورون في فلكه لإعادة عقارب الساعة إلى تشرين الأول من العام 1990.