Advertise here

هي فوضى مبرمجة

24 كانون الأول 2018 12:43:46

لا ضرورة للتفاصيل في أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية، تكفي الإشارة إلى أن الخلاف يدور حول وزير واحد فقط من أصل ثلاثين وزيراً أصبحوا مضمونين في لائحة الأسماء بالمراسيم.

الأزمة في شهرها الثامن، وكأن العقدة التي جمدتها تتعلق بمصير وطني. ومن يتابع حركة الوزراء المضمونين في الحكومة المنتظرة يتصور أن الأزمة "مصيرية".

لكن الغريب في الأمر أن المئة وثمانية وعشرين نائباً يتابعون مع الرأي العام حركة الوسيط مع المعنيين مباشرة بالحل، وكأن المشكلة لا تعنيهم.

وفي هذا الوقت المهدور تزدهر بورصة توزيع الوزارات فتتداخل وزارة العمل مع وزارة الخارجية، ووزارة الصحة مع وزارة الثقافة، والزراعة مع العدلية، والشؤون الإجتماعية مع الشباب والرياضة، والداخلية مع الاقتصاد.

وحدها الكتل الكبرى المحصنة خارج السوق، فهي قدمت لوائح وزرائها إلى من يعنيهم الأمر، ونقطة على السطر.

هي حالة نادرة في تاريخ الحكومات اللبنانية المعقدة، ولا وصف بها. فلا هي سياسية، ولا وطنية، ولا شعبية، إنما هي فوضى، وما تزال تبدو "منظمة" و "مبرمجة".

ومع هذا الوضع الشاذ يستذكر اللبنانيون كلمات قالها الرئيس الجنرال ميشال عون في مناسبة العيد (الماسي) للإستقلال ليلة 22 تشرين الثاني الحالي: "اللبناني سئم الوعود ويكاد ييأس من تناتش المصالح، وملّ عدم إكتراث أصحاب القرار بمخاوفه وأحلامه المكسورة، ومن واجبنا أن نطمئنه إلى غده".

وإذ رأى "ان لبنان يعيش اليوم أزمة تشكيل الحكومة سبق أن عاشها في السنوات الماضية، "وتحصل في دول عريقة في الديمقراطية والحضارة"، قال: تذكروا أن لبنان لم يعد يملك ترف إهدار الوقت... لكن متى الإصلاح والتغيير؟

وفي اليوم عينه لبّى الرئيس عون دعوة "أخوة المدارس المسيحية في الشرق الأوسط" للإحتفال باليوبيل الـ (125) لمدرسة "الفرير".

وقد جلس على مقعده في تلك المدرسة الثابتة في موقعها في شارع "الجميزه" في بيروت.

كان حوله رهط من رفاق الدراسة القدامى، وكانت على الوجوه إبتسامة الرضا، والبراءة، وطيف ذكريات الصبا، والأحلام، والآمال التي كانت معلقة على حبال الخيال.

صورة الرئيس عون التي ظهرت في جريدة "النهار" ذلك اليوم تعبّر عن شعور لعله إستعادة من ذلك الزمن.

ومن خلال التدقيق في نظراته يدرك الناظر أنه كان يستعيد زمن الفتوّة على مقاعد المدرسة، ولعله ساءل نفسه: هل كنت أحلم بان أكون رئيس جمهورية لبنان؟.. وبالتأكيد أدى صلاة الشكر..

الجنرال عون هو الرئيس العسكري الرابع للجمهورية اللبنانية، وفي زمن فتوّته بدأت الانقلابات العسكرية تحكم بعض الدول العربية... إلا لبنان... فقد نجا من "البلاغ رقم 1" الذي كان يصدر من الإذاعات، ويطبّق على الأرض في العواصم والأرياف بأسنة الحراب، وفوهات المدافع.

لكن، لا بد للأجيال السياسية الحديثة الطالعة من اللبنانيين أن تعلم أن "الجمهورية المدنية" الاولى التي نشأت في لبنان كانت في عهد الرئيس الجنرال فؤاد شهاب، وهو كان إعتذر عن عدم قبول الرئاسة مع طلوع فجر ذلك اليوم (18 ايلول 1952) تحت ضغط ثورة شعبية مدنية دامت ثلاثة أيام وعمت العاصمة بيروت وكل مناطق لبنان. تلك الأحداث الخطيرة المتتابعة فرضت على الجنرال أن يقبل المهمة الوطنية التي فُرضت عليه.

ومع فجر ذلك اليوم قال الرئيس المغفور له الشيخ بشارة الخوري للجنرال شهاب وهو يسلمه الدستور اللبناني: "إنه الامانة".

وقد قبلها الجنرال، معاهداً الله والشعب اللبناني، والجمهورية، على أن يحكمها مدنياً، وأن يحمي دستورها، وميثاقها الوطني الديمقراطي، وأن يصلح إدارتها، وينعش اقتصادها، ويحصّن إستقلالها، وأمنها المدني، والعسكري...

هذه القواعد التي إلتزمها الجنرال شهاب تضمنها خطابه الرئاسي يوم إنتخابه وأدائه القسم الدستوري أمام مجلس النواب في 23 أيلول 1952.

فارق زمني طويل بين عهد الرئيس الجنرال فؤاد شهاب وعهد الرئيس الجنرال ميشال عون... وأحداث إقليمية ودولية بدّلت أوضاع وأنظمة دول كبيرة ومتوسطة الحجم، وصغيرة، في العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط... وما تزال علة لبنان مستحكمة بدولته ومؤسساته: الفساد.. والتمييز بالحقوق بين طائفة وطائفة، وبين مذهب ومذهب.