Advertise here

مستقبل التعليم العالي في لبنان

26 آب 2022 00:08:38

على وقع التراجع الذي شهده التعليم العالي في لبنان في السنوات الاخيرة، والنزيف في الكوادر البشرية الذي تشهده الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة العريقة بسبب الازمة المالية والاقتصادية، انجزت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي إعداد استراتيجية للتعليم العالي للسنوات الخمس المقبلة بالتعاون مع منظمة اليونيسكو. وقد شاركت مع زميلات وزملاء من اصحاب الخبرة في نقاش هذه الاستراتيجية، وكان اجماع بأن  الرؤية الجديدة، يجب أن تنطلق من التحديات العالمية التي يواجهها التعليم العالي، ومنها استمرار دور الجامعات في تعزيز مبدأ تكافؤ الفرص، ومن القدرة على اصلاح التعليم والتأقلم مع التعلم المستمر، والتعامل مع ما فرضته التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي من تحديات، إذ باتت مؤسسات التعليم العالي،  بحاجة الى "أن تستخدم بشكل متزايد الأدوات الرقمية في إدارتها اليومية وفي برامجها"، كما يجب أن تنطلق الرؤية من التحديات الداخلية التي يواجهها التعليم العالي في لبنان، وتوفر الارادة السياسية لبناء اقتصاد قادر على انتاج الوظائف للعمالة الماهرة، ولاسيما تلك المرتبطة بالثورة الرقمية التي فرضت تحولات هائلة في اسواق العمل ومتطلباتها. ومن البديهي أن تأخذ الرؤية في الاعتبار التحديات الجديدة التي تواجه الخريجين اللبنانيين في الخارج ولاسيما في بلدان الخليج التي كانت لعقود توفر الفرص الاكبر للكثير من خريجي الجامعات اللبنانية، والتي تشهد تحولات اقتصادية هيكلية تتمحور حول تنويع الاقتصاد واعطاء الاولوية في التوظيف لمواطنيها. 

ركائز الرؤية 

تتطلب الرؤية الجديدة البناء على هذه التحديات بالتزامن مع إعادة بناء القدرات في وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، كي تتمكن من مواكبة تطور مؤسسات التعليم العالي وتفعيل ادائها المؤسساتي وممارسة رقابتها على الجامعات الخاصة، وذلك من خلال الهيئات المختصة، ولاسيما منها اللجنة الفنية الاكاديمية ولجان الاختصاص، وطبعاً مجلس التعليم العالي الذي يجب أن يتحول الى مؤسسة قادرة على وضع التوجهات الرئيسية لسياسة التعليم العالي، وتحديثها بشكل مستمر لمواكبة التحولات التي تجري في اسواق العمل في ضوء الاتجاهات الجديدة واهمها، التحول الرقمي وكذلك التحول نحو الطاقة المتجددة. ومما لا شك فيه، أن احد اعمدة نجاح هذه الاستراتيجية، يكمن في القدرة على تشكيل المؤسسة الوطنية لضمان الجودة التي نص على انشائها قانون الاحكام للتعليم العالي الصادر العام 2014، وتعطل إطلاقها بسبب التجاذبات السياسية القائمة، وكذلك اطلاق مشروع إعادة تقييم برامج ومناهج  الجامعات، ولاسيما تلك التي تأسست في مرحلة الانفلات في منح التراخيص. 

ويشكل البناء على التحولات التي تجري في دول الخليج اهمية بالغة ايضاً في نجاح الاستراتيجية، حيث يجب التعامل بجدية وواقعية، مع سياسات التوطين الجارية في بلدان الخليج ونتائجها والتي تهدف الى استيعاب الموارد البشرية الوطنية الجديدة، التي تخرجت من افضل الجامعات في الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا واوروبا واليابان وغيرها، وذلك لتولي الوظائف القيادية في الحكومة والشركات. وتفترض الواقعية، الاعتراف بأن الفرص المتوافرة للعمالة اللبنانية الماهرة في اسواق الخليج آخذة في التقلص، مما يستدعي الوعي لاهمية اطلاق مشاريع بناء المؤهلات الجديدة لطلاب الجامعات في لبنان خصوصاً تلك المرتبطة بالعصر الرقمي. 

من جهة ثانية، يجب اعطاء اهمية بالغة الى التحول الذي يجري في اقتصاد دول الخليج، والى الخطط الاقتصادية الجارية في هذه الدول، واهمها رؤية السعودية 2030 والتي تسير بثبات نحو التنويع الاقتصادي، وتنمية قطاعات واعدة ومنها السياحة، التكنولوجيا، التعدين والتحول نحو الطاقة المتجددة ودخول المملكة نادي الدول المنتجة للهيدروجين النظيف، كذلك التركيز على السياسات في قطاع الصحة في ضوء التحديات التي فرضتها جائحة كورونا ومتحوراتها، إذ تتوفر الفرص في هذا القطاع للاطباء والممرضين اللبنانيين الذين لا يزالون في موقع مميز بين المنافسين من الدول الاخرى. ومن المهم التركيز على الاتمتة التي تجري في اسواق المنطقة، والتي تفترض التحول في برامج واختصاصات العديد من الجامعات اللبنانية، حيث اشارت دراسات حديثة الى أن 50 في المئة من الوظائف في الشرق الاوسط تحولت الى الاتمتة، والباقي يسير في طريق التحول. وفي هذا المجال، تحتل المملكة العربية السعودية الصدارة في مستوى نمو الوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والرقمنة كعلوم البيانات الضخمة Big Data وعلوم الكمبيوتر المرتبطة بالبرمجة، التطبيقات، الشبكات والأمن السيبيراني. 

 ربط التعليم العالي بوظائف المستقبل 

أسئلة كثيرة مطروحة برسم مجلس التعليم العالي والجامعات اللبنانية، والتي تتعلق بإعادة هيكلة الاختصاصات، بما يتوافق مع هذه التحديات، ولاسيما الرقمية منها، إذ يعتقد عدد من الخبراء أن الرقمنة  "تتيح الوصول إلى المزيد من الموارد، ويجب أن تكون دائماً جزءاً من مشروع تعليمي حتى تكون مفيدة". والسؤال الاهم بالنسبة الى مستقبل التعليم العالي في لبنان، يتعلق بإدراك اهمية ربط تطور مؤسسات التعليم العالي والاختصاصات التي تقدمها في التحولات التي تجري في وظائف المستقبل. بمعنى: هل من العقلانية بمكان ان تستمر هذه المؤسسات بتقديس برامج ومناهج اصبحت من عالم مضى، واختصاصات ستختفي قريباً من اسواق العمل ؟ ام أن الوقت قد حان، لإعداد جيل لتولي الوظائف المرتبطة بالثورة الرقمية، والتوجه لبناء سياسات جديدة تشجع على الابتكار وريادة الاعمال، التي تشكل الاتجاه البنيوي الجديد في التطور الاقتصادي وبناء فرص العمل لجيل الشباب؟

ثمة تحديات شاملة طرحها العديد من الخبراء في التعليم العالي، وأهمها: "الرد على اسئلة تتعلق بمحتوى البرامج في ضوء تحول التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي الى حقيقة، وموقع التقنيات والمهارات المطلوبة لاسواق العمل في هذه البرامج، الامر الذي يؤدي الى سؤال مركزي، ماذا نعلم، وكيف نعلم؟". الاجابة على هذه الاسئلة، تكمن في الوعي للاتجاهات الجديدة التي تتحكم في بيئة الاعمال، وادراك اهمية التحول الرقمي واهمية البيانات ودورها في بناء الفرص وتنوع الخيارات وتحديد الميزات التنافسية، إذ تؤكد متطلبات الاسواق  أن بناء القدرات والمؤهلات الجديدة يجب ان يتم في سياق هذا التقدم العلمي والتقني الذي نشهده في القرن الحادي والعشرين.

تحديات البحث العلمي ونظام التمويل 

يشكل تعزيز البحث العلمي الذي يقود الى حصول الجامعات على الاعتمادات المطلوبة، ويفعل من ثقافة البحث العلمي لدى الخريجين، أهم التحديات التي تواجه التعليم العالي، اذ تشير الاحصاءات لعدد من المؤسسات المتخصصة، إلى أن غالبية الابحاث العلمية المنشورة تصدرها خمس جامعات لبنانية فقط، علماً أن الفقرة 3 من المادة الخامسة من قانون التعليم العالي تفرض على الجامعات "تخصيص نسبة خمسة في المئة على الاقل من موازنتها السنوية التشغيلية للبحث العلمي ومستلزماته".

 كما تشكل كلفة التعليم وانتهاء صلاحية نظام التمويل التقليدي، وكلفة التحول الرقمي، اهم العقبات التي ستواجه التعليم العالي في لبنان ولاسيما في السنوات الخمس المقبلة. وفي تحليل مقارن بين لبنان والدول التي توازيه في الناتج القومي ما قبل الازمة، نجد تدني نسبة الصادرات التكنولوجية واضمحلال حجم الموازنة المخصصة للبحث العلمي إن على الصعيد الحكومي، اذ خصصت الحكومة في السنوات الماضية مبالغ للبحث العلمي للمجلس الوطني للبحوث العلمية لا تتجاوز سبعة مليارات ليرة لبنانية، الامر الذي يعكس الموقع المتواضع الذي يحتله البحث العلمي في اجندة الحكومات اللبنانية المتعاقبة. يتضاعف تحدي التمويل في لبنان في ظل الازمة المالية التي تشهدها البلاد ، وتراجع قدرة الدولة عن المساهمة في كلفة تطور هذا القطاع وقيام البنية التحتية للتحول الرقمي، فضلاً عن عدم القدرة او توفر الارادة على الايفاء بالالتزامات التي يجب ان تتوفر للجامعة اللبنانية، وتعاونية موظفي الدولة والصناديق الضامنة الاخرى في رفع نسبة المنح الجامعية لموظفي القطاع، الامر الذي جعل ذوي الطلاب يرزحون تحت عبء رفع الاقساط الذي بدأت به الجامعات الخاصة بسبب انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي الذي تسبب بانهيار القدرة الشرائية وارتفاع نسبة التضخم التي بلغت في شهر مايو 2022 نحو 211 في المئة . ويشير تقرير المراجعة السنوي للانفاق العام في العام 2015، الى تراجع نسبة الانفاق الحكومي الى 2.3 في المئة من الناتج المحلي المقدر بنحو 51 مليار دولار بالنسبة الى الانفاق في العامين 2005 و2007 الذي وصل الى حدود 3.5 في المئة و3.1 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. والجدير بالذكر أن الجامعة اللبنانية التي تستقطب نحو 38 في المئة من الطلاب الجامعيين، كانت تشكل موازنتها قبل انهيار قيمة الليرة اللبنانية نحو 231 مليون دولار تغطى معظمها من الموازنة العامة للدولة، قد تراجعت بفعل هذا الانهيار الى نحو 25 مليون دولار، مما ادى إلى عجز كبير في مواجهة اعباء كلفة التشغيل والصيانة والتجهيزات للمختبرات، وإلى هجرة عدد غير قليل من اساتذة الجامعة، الذين يواجهون اوضاعاً مأساوية في ظل غياب الحلول الظرفية والمستدامة. 

التحديات متعددة ومقلقة، ولاسيما ان ميزة لبنان التفاضلية تبقى في موارده البشرية ومخرجات التعليم العالي في لبنان التي تأثرت بشكل سلبي في السنوات الاخيرة، لا تزال تشكل الرهان الوحيد للحفاظ على هذه الثروة. ومن المهم إطلاق الاستراتيجية الجديدة للتعليم العالي بالتزامن مع خطة اصلاح التعليم  والتركيز على مهارات النقد والتحليل، ومع  بناء رؤية اقتصادية جديدة تواكب التحولات نحو العصر الرقمي، والتحولات البنيوية الاخرى التي تجري في اسواق العمل في المنطقة والعالم، وكذلك اصلاح التعليم المهني.   

 في النهاية، يبقى التحدي قائماً في لبنان حول مدى امكانية الدخول بديناميكية جديدة، تؤدي إلى اطلاق ورشة الاصلاحات الاقتصادية والمالية، والدخول في برنامج انقاذي عبر صندوق النقد الدولي، وكذلك إطلاق برامج اصلاح التعليم، وفي مقدمها تطوير قوانين وانظمة الجامعة اللبنانية وتحديث اختصاصاتها، وإعادة استقلالها المالي والاداري اليها، كي تتمكن من بناء الشراكات مع القطاع الخاص لتأمين مواردها المالية، والخروج من نظام التمويل الحالي الذي يعتمد على موازنة الدولة والذي دخل بمأزق كبير بسبب الازمة المالية والاقتصادية التي يشهدها لبنان.  

ومع التفاؤل الحذر وعدم الوقوع بالاوهام، فإن الدخول في المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد في بداية شهر ايلول، سيكون المؤشر الذي سيسلكه لبنان في هذه المرحلة حاسماً،  لجهة القدرة على اجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، وتشكيل حكومة قادرة على تحقيق الاصلاح المالي والاقتصادي، وعودة لبنان الى مسار علاقاته التاريخية مع محيطه العربي الطبيعي، ولاسيما المملكة العربية السعودية التي تشكل عمود الاستقرار الاقليمي، وقاطرة النمو الاقتصادي في المنطقة الذي يكفل توفير عدد مهم من فرص العمل للعمالة اللبنانية الماهرة في العقد الحالي. 

المصدر: موقع أولاً للاقتصاد والأعمال