معروفة صارت الخطوات الإصلاحيّة المطلوبة لكي ينال لبنان موافقة صندوق النقد الدولي على تمويل برامجه لمدة ثلاث سنوات. صحيحٌ أن المبلغ الإجمالي لن يكون كبيراً قياساً إلى حاجة الإقتصاد اللبناني الماسّة لتدفق الإستثمارات الأجنبيّة بهدف إنعاشه، ولكن كما بات معلوماً فإن هذا الإتفاق يُشكل مدخلاً حتميّاً لإستقطاب إستثمارت ماليّة وتوظيفات أخرى.
لقد تعهّد «المجتمع الدولي» أن يُقدّم الدعم للبنان في حال إقرار الخطوات الإصلاحيّة وفي حال وقعت الحكومة اللبنانيّة إتفاقاً ناجزاً مع صندوق النقد الدولي. قد لا تتدفق الأموال على لبنان بالمليارات كما حصل في حقباتٍ سابقة، ولكن ستُفتح كوّة ما في الجدار المغلق والسميك.
في الواقع إن تجارب المجموعة الدوليّة مع قضيّة الإصلاحات الإقتصاديّة في لبنان هي قضيّة قديمة وشائكة. منذ مؤتمرات باريس الأول والثاني والثالث ولاحقاً مؤتمر «سيدر»، قلّما نجحت السلطات السياسيّة اللبنانيّة بالالتزام بالتعهدات التي كانت تقطعها أمام تلك المجموعة. وبالتالي، مع مرور الزمن، تشكلت القناعة لدى الدول والجهات والهيئات المانحة أن لبنان لن يخطو خطوة إلى الأمام في مسألة الإصلاحات.
لم يكن تعطّل قطار الإصلاحات الإقتصاديّة في لبنان نتيجة خلاف حول الخيارات الإقتصاديّة المثلى أو في إطار تنافس إيجابي على كيفيّة تعديل مسارات الإقتصاد اللبناني وإعادة هيكلته ليكون أكثر إنتاجاً وأكثر إلتصاقاً بمبادئ العدالة الإجتماعيّة. إنما كان السبب الرئيسي خلف الفشل المتتالي في تطبيق الإصلاحات هو المناكفات السياسيّة حصراً.
نعم، المجموعة العربيّة والدوليّة ساعدت لبنان في الكثير من المنعطفات السابقة، حتى أن دولاً عربيّة أودعت المصرف المركزي اللبناني ودائع كبيرة لحماية الليرة اللبنانيّة من السقوط. الصناديق العربيّة (التي رفضها أحد وزراء الطاقة السابقين لتمويل إنشاء محطات كهرباء بحجة «الروتين الإداري»!) موّلت إنشاء شبكة المستشفيات الحكوميّة في كل أنحاء لبنان بقروض ميسرة جداً وبفترات سداد طويلة وفوائد شديدة الإنخفاض.
أثناء تولي حكومة الرئيس حسّان دياب المسؤوليّة الوزاريّة، وفي عهد الرئيس ميشال عون، تخلف لبنان عن تسديد ديونه للمرّة الأولى في تاريخه وامتنع حتى عن التفاوض مع الدائنين لجدولتها، ممّا خفّض التصنيف الإئتماني للبنان ومهّد لضرب سمعته الدوليّة. طبعاً، جاء أداء العهد الذي يعيش إرهاصاته الأخيرة في هذه الأسابيع الأخيرة، ليُسقط لبنان في أقسى عزلة عربيّة ودوليّة غير مسبوقة أثّرت على واقعه السياسي والإقتصادي والمعيشي بشكل كبير.
اليوم، المطالب الإصلاحيّة لا تزال هي هي دونما أي تعديل أو تبديل. فقط تفاقمت المشاكل بشكل أكبر وتعمّقت المصاعب في معالجة تلك المشاكل المترامية الأطراف والتي تطال جميع القطاعات دون إستثناء. ولكن المشكلة الكبرى تتمثّل في استمرار سياسة المناكفات والمراوحة السياسيّة على حالها.
هل تكترث المرجعيّات الرسميّة برجال قوى الأمن الداخلي والجيش والأجهزة الأمنيّة الذين تآكلت رواتبهم ولم تعد تكفي لسد حاجاتهم الأساسيّة؟ هل فكرّت السلطة بالمفاعيل الخطيرة التي ستتولد عن إنهيار تلك الأسلاك فيما لو وصلت عناصرها إلى حالة من اليأس التام جرّاء الأوضاع المعيشيّة المتدهورة؟
لأجل كل ذلك، بات التعويل على الإستحقاق الدستوري الأقرب ألا وهو إنتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، وفي المهل الدستوريّة المحددة بما يحول دون سقوط البلاد في الفراغ الذي من المرجح أن يكون الخروج منه مسألة صعبة تتطلب توفر ظروف محليّة مطعّمة بجهود دوليّة لن يكون من السهل تشكلها على ضوء الواقع الدولي ومدى الإهتمام الخارجي بلبنان في تلك اللحظة السياسيّة.
اللبنانيون يستحقون أفضل من ذلك. إنتخابات الرئاسة هي المحك والحد الفاصل بين المزيد من الانهيارت والأمل بالخروج التدريجي من النفق الأسود.