Advertise here

وداعًا... "التقدّمي الاشتراكيّ الراقي" جوزيف القزّي

09 آب 2022 14:08:22 - آخر تحديث: 09 آب 2022 14:21:59

وغاب عن "الدير" قمرها المنير، علمًا وأدبًا وفكرًا وقّادًا وثقافة متميّزة... "الأستاذ جوزيف القزّي"، المربّي، والأستاذ، والأب، والأخ، والرفيق، والقائد، والقدوة... الرجل الأخلاق والسمات التي تعكس فكره المتوهّج بنور "الكمال"، كيف لا، وهو الحامل للفكر التقدّميّ الاشتراكيّ، وحاميه، على مساحة حياته الزاخرة بقيم الحقّ، والخير، والجمال! فلم يترك نضاله الفكريّ الراقي في أيٍّ من صولاته وجولاته على المنابر، وفي قاعات المحاضرات، وفي عقول الشبيبة التوّاقة التي نهلت من تعليمه زادًا نحو الإيمان بالحرّيّة، والعمل المباشر، والتضحية بالذات... حتّى.
من عرف "الأستاذ جوزيف"، عرف تاريخًا نضاليًّا كبيرًا، لا يمتدّ على مساحة ذاكرتنا المحدودة فقط، لا، بل يتعدّى ذلك إلى تلك الأقدار المنسكبة بتناغم الوجود، لتضعه تلميذًا بارًّا برفقة المعلّم كمال جنبلاط؛ فكان معه، يغترف من معرفته وفكره الزاخر بالمسلك العرفانيّ العابر لكلّ شيء، يرتوي منه، ويروي. وكم كانت ابتسامته وهّاجة عندما يسوق إلينا بعضًا من نوادره "الجميلة" مع المعلّم، وقد خاطها في ذاكرته حرزًا، وحافظ عليها بنور القلب، وضياء الفكر، وسلاسة التعبير، ممّا حباه الله به. 
الأستاذ جوزيف، الرجل "الرجل"، الأنيق، المفكّر، صاحب الكلمة الحرّة، الصادح بالحقّ بلا مواربة، والمبتسم دائمًا وأبدًا بسرور طمأنينة "قد قمت بواجبي"، وهو الأستاذ الذي ترك جميل البصمة لدى طلّابه الكثر الكثر، والخطيب الذي يتابعه المستمع بشغف الإصغاء، لما يجود به من تحليل ومنطق وبعد رؤية، وهو الملتزم الذي خاض غمار أكثر من مسؤوليّة في الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ الذي ينتمي إليه بفخر وقناعة، فكان نجاحه يسبق تولّيه للمسؤوليّات المتتابعة، والتي لم يتوانَ عنها إلى حين أبعده المرض، وساقت عليه الأيّام ابتعادًا قسريًّا عن تلاميذه ومتابعيه.
لا كلام نرثي به الفقيد الكبير، لأنَّ اختبار الأشخاص ذوي النفوس المميّزة، ليس للمفردات طول لتوصيفه، أو لإيفائه حقّه. لكنَّ ما تركه من أثر، يبقى يحتلّ عقولنا وقلوبنا التي لن تنساه، وستبقى تذكر ما قدّمه لأجيال وأجيال من "كنز" ما وُجد بين يديه. فأعطى المعرفة عطاء المعلّمين الحقيقيّين، والذين يقومون بمهمّة نقل الشعلة، والحرص عليها، لكي تبقى مضاءة... ومصانة. فلله كم أدركتَ من خصال التضحية! وكم حملتَ هموم العابرين!
ولعلَّ أكثر المحاور التي نالت حصّة من اهتمام فقيدنا الغالي، وخطابه، "ديمقراطيّة التعليم"، وهو المختبِر لقضايا التعليم في لبنان، والخبير بها؛ وكأنّه، بواسع حلمه، ومعينه العلّميّ والتدريسيّ، أدرك أنَّ السمات الأولى لانهيار أيّ حضارة، مهما علا شأوها وشأنها، هي انهيار التعليم فيها، وهذا ما نخوض غماره، ويا للأسف، في وطننا اليوم! فعلى مدى عقود، تحدّث الأستاذ جوزيف القزّي عن التعليم والديمقراطيّة في تفعيله، عازيًا ذلك إلى سببين اثنين، هما:
1-   لأنَّ المعرفة هي الأداة الحقيقيّة لصهر فئات الشعب.
2-   لأنَّ الفكر هو قيمة بحدّ ذاته، وهو موضوع لكرامة الإنسان، ومرتكز لكلّ نشاط بشريّ، وقدر المعرفة كان مقياسًا لكلّ عمل إنسانيّ، ومصدرًا للحريّة والغبطة. (قالوا في كمال جنبلاط، ص. 529)
هكذا نظر الأستاذ جوزيف إلى التعليم، كمنطلق لأيّ جهد إنسانيّ هادف، ومنظّم، تُقطف ثماره، بيد الحريّة والفرح الحقيقيّ. وقد كان المنادي دومًا للتلاقي، إذ لا اختلاف بين "أنا" و"أنت"، فكلّنا "واحد" في هذا المحيط. 
لقد سعى الفقيد الكبير ليجسّد درب المسلك الديمقراطيّ الحرّ، المشاد وفق الآية الحكميّة "التنوّع ضمن الوحدة"، والممهّد للمواطنة الحرّة البنّاءة، لتكون لنا السعادة التي ننشدها.
عاش الأستاذ جوزيف التقدّميّة الاشتراكيّة الحقّة في حياته، وصداقاته، وعمله، وأخلاقه، ولم يخرج عمَّا تلقّنه من المعلّم كمال جنبلاط، لأنّه أدرك فعالية ذاك الدواء الذي به يُعالج كلّ داء اجتماعيّ، واقتصاديّ، وفكريّ، وعقائديّ... عدالة إنسانيّة جامعة، وصولًا إلى عالم أكثر إنسانيّة!
اليوم، أيّها المناضل المثقّف الأنيق، ومع خبر رحيلك، الممتلئ بالشجن، والأسف على خسارتنا لِطيف آخر جميل ومؤنس، من معاصري المعلِّم الحبيب، وتلامذته النجباء، وبعد أن ودّعنا، منذ أربعة أشهر وقليل، طيفًا تقدّميًّا إنسانيًّا آخر هو، الفقيدة الغالية الدكتور نازك أبو علوان عابد، نتوجّه إلى روحك بالدعاء والرحمة والسلام، ونرسل مع فجرك الذي انبثق في جمال تكريس العمل الصالح، وخدمة المجتمع بلا حدود، والتفاني والرقيّ في التعامل الإنسانيّ، شمسًا لا يدركها مغيب، نرسل لك باقة وفاء، وشكر، وعرفان... لقد زرعتَ نبتة القمح المباركة في نفوس الكثيرين من نهلة التقدّميّة والإنسانيّة الحقّة، ولا غلو بأنَّ هذه النبتة ستتفتّق سهولًا جارفة، لتكون، كما أردتها، وكما أرادها المعلّم كمال جنبلاط، حصادًا متجدّدًا في كلّ حين... 
لنفسك الراحة والترقّي، ولنا من بعدك "ذاك النور" نستضيء به، إلى أن يشاء الله، فيكون ما أراد.