Advertise here

أميركا إلى أين!

02 آب 2022 10:36:21

لست ممن يعتبرون أنّ التقريع بأميركا من مستلزمات الخطاب الوطني، وقرينة اعتناق الأفكار التقدمية، هذا التفكير النمطي الذي حفر في تلافيف عقل البعض الكثير من ثقافة سياسية جعلتنا خارج السياق، فلم نجنِ منها فائدة، بل استثمرتها إسرائيل ونجحت فيها! أنطلق في هذا من عقلٍ باردٍ يعتبر أنّ الذهاب بعيداً في استعداء أميركا  أمرٌ مكلف، خاصةً لدولة صغيرة مثل لبنان. وهذا لا يعني النقيض، أي التماهي فيها على طريقة أم كلثوم "بالحب أنا سلّمت قلبي إليك"، بل لعل ذلك  يصبح أخطر وأعلى كلفة!! لكن لا بدّ لنا أن نعترف بأن مشاعر الكراهية ضد السياسات الأميركية لها ما يبرّرها عند العرب، خاصةً عندما تنعدم أية مبررات منطقية لهذه السياسة التي ثبت بأنّها لا تخدم حتى مصالح الولايات المتحدة نفسها.

 سمنٌ على عسل
      
 قبل زهاء 150 سنة كانت مشاعر العرب منشدّة لأميركا بحكم الهجرة، وبحكم الانبهار بدورها المعرفي كمنارة علمية تبدّت  في الكلية البروتستانتية السورية 1866، فيما بعد الجامعة الأميركيةفي بيروت ( AUB)، وبعدها "كلية بيروت للبنات عام 1924، والتي أصبحت "الجامعة الأميركية اللبنانية" (LAU)، فضلاً عن البعثات التعليمية الأميركية أواخر القرن التاسع عشر، ولعل هذا الميل نحو أميركا بدا جلياً فيما سمعته لجنة كينغ – كراين الأميركية عام 1919، والتي أوفدها "مؤتمر فرساي" أعقاب الحرب العالمية الأولى للوقوف على رأي العرب في الانتدابات على بلادهم، ويومها لقيت ترحيباً من كل من قابلتهم في المشرق العربي، وكان هنالك شـبه إجماع مؤدّاه  "إذا كان لا بدّ من الانتداب فليكن أميركياً"... وعلى الرغم مما طرأ بعد نكبة فلسطين من تغيّر في المزاج العربي حيال أميركا، كان هناك ما يوازيه فيبدّد من هذا التغيّر: الأول تفوّق القوة الناعمة الأميركية من سينما، ومراكز ثقافية، وبعثات تعليمية، هذا فضلاً عن المساعدات السخيّة أبرزها القمح. والأمر الثاني جاء في دور أميركا الإيجابي  في نضال الشعوب ضد الاستعمار القديم، ولثورة الجزائر منها نصيب. وتبقى أبرز المحطات وقوفها ضد "العدوان الثلاثي على مصر"، عبر عنه الإنذار الشهير لأيزنهاور للدول المعتدية: بريطانيا فرنسا وإسرائيل، لوقف عدوانها وسحب جيوشها. ثم كانت المحطة الأهم في العلاقات العربية - الأميركية في عهد الرئيس جون كِنيدي الذي حاول أن يطل على العالم العربي بعقلٍ منفتح. وهنا نشير إلى سلسلة المراسلات بينه وبين عبد الناصر خلال الفترة الممتدة بين عامَي 1961 و1963، وكان اللّافت فيها رؤية كِنيدي المنفتحة لحل "القضية الفلسطينية"، وهي بلا شك رؤية استثنائية قياساً لما سبقها أو أتى بعدها، ونذكر ما جاء بخصوصها في رسالته الأولى بتاريخ 11 ايار  1961: ".. إنّنا على استعداد للمساعدة في حل (تراجيديا) اللّاجئين الفلسطينيين، على أساس استرجاع ديارهم، أو الحصول على تعويضات". 

انقطع هذا الأمل بالاغتيال الغامض للرئيس جون كِنيدي عام 1963، والذي شكّل انقلاباً على مشروع بناء جسور من الثقة بين العالم العربي والولايات المتحدة عبر عبد الناصر، الشخصية الأهم عربياً، ولينقلب الحال إلى ضرب عبد الناصر بالوقوف خلف إسرائيل في عدوان حزيران 1967.

 محاكاة
تُرى كيف يبدو المشهد بنظر الشعب الأميركي؟ إنّ أوّل ما يهم دافع الضرائب السؤال:

"أين تذهبون بنقودنا؟" "ما الجدوى من خوض الحروب، ثم نترك ساحاتها؟"

 وبهذا الخصوص نذكّر بأنّ آخر حرب انتصرت فيها أميركا كانت الحرب العالمية الثانية! وبعدها (عانت من) هزيمة تلو هزيمة! ولعلّ هذا استدعى، ويستدعي، أسئلةً تطرحها نسبة غير قليلة من الأميركيين، يهمّنا منها ما يتصل بمنطقتنا:

أولاً - أين كانت مصلحة أميركا في إضعاف العراق الذي كان يقف سداً منيعاً في وجه إيران، حينما الأخيرة ما كانت لتخفي طموحها في"تصدير الثورة الإسلامية" إلى جوارها العربي؟!! 

 ثانياً- لماذا تركت أميركا المشروع النووي الإيراني يكبر لتذهب لحصار العراق وتجويعه، وأخيراً احتلاله؟!! أي منطق يبرّر هذا الخلل في البوصلة، بكل ما ينطوي عليه من تكاليف، فكيف وقد غدا جيشها في العراق رهينةً لابتزاز إيران عبر المجموعات المسلحة المدعومة منها؟!!!  

ثالثاً-  ما هي الفوائد التي عادت لأميركا جرّاء دعمها غير المحدود لإسرائيل؟ بعض النخب تسأل عن موقعٍ ما،  أو مصلحةٍ ما خسرتها أميركا وأعادتها إسرائيل إليها. العكس هو الصحيح، وأوّله (التطبيع) الذي جاء بتدخلٍ أميركي، وليس بتهيّب العرب من إسرائيل!!

استطراداً، إنّ محاولات أميركا لفرض نوع من التطبيع مع إسرائيل هي مثل الإبرة المسكّنة التي تزيل الأعراض في الظاهر، وتُبقي على المرض ينخر الجسد، إذ لا راحة لإسرائيل من غير حلٍ عادلٍ يُنصف الشعب الفلسطيني.

 منذ عقود أصبح عنوان السياسة الأميركية: "كل الأشياء في خدمة إسرائيل، والباقي إلى الجحيم"!!، حتى غدا العالم العربي بطوله وعرضه قماشاً يُراد تفصيله، وتصغيره، وتقصيره، على قياس الزر الإسرائيلي... حماقة تعاكس منطق الحياة، وهرمٌ مقلوب لا بدّ وأن يقع.