كغيري من اللبنانيين الذين يتسمّرون ليل الأحد أمام شاشات التلفزة قبل انطلاق أسبوع شاق، اخترت مشاهدة حفل انتخاب ملكة جمال لبنان لعام 2022، بعدما غاب المهرجان لأربع سنوات على إثر الظروف التي استجدّت، وفرضت نفسها على الكثير من الاستحقاقات والمناسبات.
وعادةً ما ينتظر اللبنانيون هذه المهرجانات والحفلات لهدفين يتيمين: إما الاستمتاع بالعروض وقضاء سهرة هادئة، أو السخرية من الأداء وبشكلٍ خاص الأسئلة والإجابات المطروحة على المشاركين والمشاركات في الحفل، بغض النظر عن نوعه. ولا شك أنّ حفلات اختيار ملكات الجمال في لبنان باتت في السنوات الأخيرة محط انتقاد وتهكّم بسبب الدرك الذي وصل إليه المستوى الثقافي.
ما من معايير واضحة للجمهور تحكم اختيار ملكة الجمال، بل لجنة تقيّم الظهور الخارجي، ومستوى الذكاء والثقافة، من خلال الأسئلة الموحدة أو المتغيّرة. وبعيداً عن التقييم أو المظهر الخارجي الذي تمثّل بالظهور في الفساتين ولباس البحر، ننتقل مباشرةً إلى مرحلة الجمال الداخلي، أي مرحلة تقييم المستوى الفكري عند طرح الأسئلة، حينما أظهر معظم المشتركات (لتفادي التعميم) مستوى ثقافياً مأساوياً يدق ناقوس الخطر، ويدعو للتنبّه إلى ما وصلت إليه الأمور في هذا السياق.
دعت إحدى المشاركات إلى إلغاء الطائفية السياسية. ومن هذا المبدأ، انطلقت نحو إقرار الزواج المدني، وهذه مطالب محقّة طالما رفعها الشباب اللبناني منذ مطلع الاستقلال، لكن ربطها هذا النوع من الزواج بتعزيز الموازنة المصرفية لم يكن مفهوماً، وما هي الموازنة المصرفية أساساً؟ كما أنّ أخرى اعتبرت أنّ النشيد الوطني موسيقاها المفضّلة، فلم تجب عن السؤال المحدّد حول الزمان الذي تلجأ فيه إلى الموسيقى. وهل النشيد موسيقى؟
وطغت العناوين الفضفاضة والإجابات الشعبوية والفئوية على ردود المشاركات، فكانت قضية إحداهن إلغاء الطائفية في حال فوزها بقلب ملكة جمال لبنان. وما أضخم هذا الحلم وما أصعب تحقيقه، فيما دعت أخرى المغتربين إلى دعم لبنان من خلال السياحة الداخلية، دون أن تذكر أي من مقومات لبنان التي قد تجذب هؤلاء، وقد ينمّ غياب الذِكر عن جهلها ببلدها ومميزاته.
أما المفاجأة فكانت عند طرح السؤال الموحّد، حول المنطقة التي تختارها المرشّحة لتكون وجه الحملة الإعلانية لوزارة السياحة الداعية إلى الاصطياف في لبنان، فانطلقت كل واحدة من بلدتها والمزروعات فيها، باستثناء الوصيفة الأولى، التي اختارت لبنان بشكل عام.
غابت بيروت بشكل مفاجئ عن الإجابات، ولم تذكر أي من المشاركات العاصمة على وجه الخصوص، والتي تُعتبر رمزاً من رموز الصمود منذ عصور حتى تاريخنا، نسبةً لما شهدته من مآسٍ وويلات لكنها أبت السقوط. كما غابت جبيل، عاصمة الحَرف، ومعها بعلبك، مدينة الحضارات. لكل مدينة لبنانية تاريخ يميّزها، وليس زراعة أو مهرجاناً بلدياً.
قد يكون للكاميرا ولجنة التحكيم واللقب "رهبة" تثير التوتر في نفوس المشاركات تدفعهن لارتكاب الأخطاء، ومَن منا معصوم عن الخطأ، لكن المستوى الثقافي للإجابات بشكلٍ عام كان لافتاً، ويعكس غياباً للوعي السياسي أو الاقتصادي، ويؤشّر إلى أن المهرجان بات مخصصاً للجمال الخارجي فقط، بغض النظر عن الجمال الداخلي.
"إنه جيل التيك توك"، وقد تكون العبارة من أدق ما سمعت عن المهرجان والمشاركات (من دون التعميم أيضاً). وليس بالضرورة أن تعكس المشاركات الصورة العامة لفئة العشرين العمرية في المجتمع، إلّا أنها بلا شك تمثّل جزءاً كبيراً منها.
فبعيداً عن المهرجان المذكور، يطبع "التيك توك" و"الإنستاغرام" سمات مجتمعنا، وليس المقصود اتهام هذه التطبيقات بخفض المستوى الثقافي للشباب في لبنان، لكن المبالغة في تمضية الوقت عليها ومتابعة المواد التافهة التي لا ترد أي نفع على المشاهد كانت لها نتائجها الظاهرة في إجابات المشاركات.
هذه هي النتيجة الحتمية لتراجع جمهور الكتاب والجريدة لصالح جمهور "التيك توك" ومواقع التواصل الاجتماعي، أدنى درك في المستوى الثقافي، وتراجع في نسبة الإلمام بالقضايا السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والتاريخية. وسينعكس هذا الواقع بشكلٍ مباشر على مستقبل شعب يقرر مصيره بنفسه من خلال دستور أقرّ على أنّ الشعب مصدر السلطات ينتخب ممثلين ينوبون عنه. فماذا ينتخب جيل "التيك توك"؟
لم يستثمر الشباب هذه المنصات بما يرد الخير عليهم، بل وجدوا فيها مضيعة للوقت وأداةً للتسلية واللهو. الحكم على التطبيقات بجر المجتمع إلى هذا الدرك خاطئ، فهذه المنصات تحتوي على مواد من كافة الأشكال والأنواع، منها ما هو تافه لا نفع منها، ومنها ما هو ثقافي يحمل المعلومات والحقائق.
انحسر جمهور الكتاب والجريدة، لأنّ ظروف الحياة تغيّرت بشكل عام، وحلّ الإنترنت مكان وسائل الإعلام والثقافة التقليدية، خصوصاً وأن الشبكة العنكبوتية تمنح متصفّحها سرعة التنقل وسهولة إيجاد المادة التي يبحث عنها، إلّا أنّه من غير الضروري أن ينعكس ذلك تراجعاً في المستوى الثقافي. فاختيار المادة يبقى خيار الجمهور، ولو أن خوارزميات المنصات تحاول جذب المتابع إلى ما يهمها، وما يمكنها جني الأموال منه.
يفتقد جيلنا للرغبة أو "الجلادة" في المتابعة والمعرفة، وهو لا يناصر القضايا ولا يقارب شؤوناً مصيرية مرتبطة بالسياسة، الاقتصاد، والدّين وغيرها، تنعكس على حياته بشكل مباشر. لا يقرأ ولا يكتب، باستثناء قلّة، بل انجذب إلى ما لا نفع فيه، وبات جلّ همه متابعة ملابس المؤثرات والمؤثرين على مواقع التواصل، ورحلات المشاهير وكيفية تمضيتهم لأوقاتهم. ثم يلتقط هؤلاء صورةً لكتاب ذات عنوان أخّاذ، لنشرها على خاصية "الستوري". وتفتقد هذه الفئة بغالب الأحيان للحد الأدنى من الثقافة.
تندرج المتابعات ضمن خانة الحريات الفردية، ولكل منا الحق في متابعة ما يحلو له. لكن، وبما أنّ الدستور منح الشعب حق تقرير المصير، فمن ينتخب هؤلاء ليمثلوننا؟ وكيف سيكون أداؤهم عند تبوّء المواقع الحسّاسة؟