Advertise here

بين مساوئ الرعب وفوائد الخوف البنّاء في بلاد الشام

24 تموز 2022 12:32:31

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبلغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائهما الأسبوع الماضي في طهران، أنه ليس مُعجَباً أبداً بفكرة الكرملين بإيكال سوريا الى إيران ولن يقبل بها على الإطلاق. بل أكثر، حسبما نقلت مصادر وثيقة الاطلاع على القمّة الثلاثية الروسية - التركية - الإيرانية التي تظاهرت وأنها تُحيي عملية آستانة للسلام في سوريا. السيد أردوغان لطّف إنذاره لإيران بأن أنقرة لن تقبل بما تصمّمه طهران لنفوذٍ عارمٍ لها في سوريا ومدّها الدعم على طريقتها للرئيس السوري بشار الأسد، قائلاً إنها مجرّد تمنيات لا مستقبل لها. وعندما أراد أن يوضح أكثر، قال إن أي محاولة لبسط سيطرة إيران على سوريا إنما تتناقض مباشرة مع المصالح القومية لتركيا- وأنقرة جدّيّة جدّاً عندما يتعلق الأمر بمصلحتها القومية.

أما القيادة الإيرانية، فإنها أبلغت السيد بوتين أنها جاهزة ومستعدة وقادرة على السيطرة على سوريا وإنقاذ الأسد. السيد بوتين اعترف أن سُلّطة وقوة روسيا في سوريا تتآكل بسبب انشغال موسكو بالعمليات العسكرية في أوكرانيا وأن موسكو ليست متحمّسة اليوم لزيادة نفوذها في سوريا. تقبّل السيد بوتين إنذار السيد أردوغان لإيران على مضض، وأخذ علماً أن الرئيس التركي يلعب أوراقه اليوم بثقة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تنتمي اليه تركيا، وعبر تقديم نفسه وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا. إنما ما أبلغه الرئيس الروسي الى القيادات الإيرانية هو أن روسيا ستبقى حليف الجمهورية الإسلامية الإيرانية الاستراتيجي، وأن الكرملين يقدّم الى القيادات الإيرانية كامل الدعم لصلاحيات واسعة لها في سوريا تحلّ مكان روسيا في هذا المنعطف، بغض النظر عن رأي وتهديد السيد أردوغان. بل أكثر. ما أكده السيد بوتين هو موافقته على أن لبنان مرتبط مئة في المئة بالقرار الإيراني، وأن الكرملين يتفهّم ويفهم المصالح الإيرانية في لبنان ويقرّ بأن مستقبل لبنان لا يمكن فصله عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

لم تكن قمّة طهران ردّاً على قمّة جدّة كما ظن البعض. كانت قمّة محاولة التفاهم ثلاثياً على الأدوار في سوريا، ولم يتم الاتفاق. الإيجابي الوحيد الذي صدر عن قمّة طهران هو الاتفاق على استمرار الحوار. فلا اختراق لجهة تقريب وجهات النظر أو تنظيم نفوذ الدول الثلاث في سوريا، ولا تراجع في خطط أي من الأطراف الثلاثة العسكرية منها أو الاستراتيجية.

أردوغان تمسّك بمواقفه ولم يبدِ أي استعداد للتعاون مع روسيا في سوريا مؤكداً أن تقويم مصالح تركيا لم يتغيّر، وأن تركيا لن تتراجع عن القيام بعمليات عسكرية داخل سوريا عند الحاجة. طلب من نظيره الروسي ألاّ يضغط عليه أو على تركيا، لأن لا مجال لأخذ خطوة الى الوراء.

ما أكده أردوغان لبوتين هو أنه يأمل ويتمنى كثيراً بألاّ تقع مواجهة بين تركيا وروسيا في سوريا، وأنه يعتزم أن يجد دائماً لغة مشتركة بين الدولتين والقيادتين لتجنّب المواجهة، حسبما أكّدت المصادر المطلِعة على اللقاء. أما إيران، فإنها أمرٌّ آخر وأسلوب التعاطي مع أدوارها في سوريا مختلف وهو ينطلق من اعتبار أنقرة أن محاولات طهران للسيطرة على سوريا تتعارض تماماً مع مصالح تركيا القومية.

فكرة بوتين أن يجعل من إيران اللاعب الأقوى في سوريا والضامن للنظام في دمشق اصطدمت برفضٍ قاطع من أردوغان وصعّدت الشكوك التركيّة من المخططات الإيرانية. هذه الفكرة لا تعجب الولايات المتحدة ولا إسرائيل لكن إيران تريدها بشدّة وتعتبرها حيويّة لمشروعها الإقليمي أتت "هدية" لها من الحرب الروسية على أوكرانيا.

نصْب الجمهورية الإسلامية الإيرانية حاكم الأمر الواقع في سوريا قد يكون مشروع توريط لإيران، لكن القيادة الإيرانية تعتبره إنجازاً استراتيجياً تريده طهران لأنه يضعها على البحر المتوسط. امتداد خطوط المواجهة الإيرانية المباشرة مع إسرائيل من لبنان الى سوريا أمرٌ تريده طهران في زمن السلم كما في زمن الحرب لأنه يشكّل لها أدوات مقايضة وجبهات مواجهة. وهذا يناسبها تماماً اليوم لا سيّما أن القيادة الإيرانية واثقة تماماً من نفسها في وجه إسرائيل عسكرياً وليس فقط تهادنياً. ثم أنها لا تفكّر بمجرّد معطيات اليوم، فإيران تبني لبنة لبنة دورها في ذلك الحلف الثلاثي أي الترويكا الصينية - الروسية - الإيرانية.

أثناء لقاء الرئيسين الروسي والإيراني في طهران، طلب الرئيس إبراهيم رئيسي تصعيد الضغط الروسي في موضوع المحادثات النووية في فيينا والهادفة الى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA لعام 2018 والتي وقّعتها الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا مع إيران. لكن رئيسي أكّد لبوتين أن إيران لن تتخذ أيّة خطوات تجعلها تبدو ضعيفة في نظر الولايات المتحدة والعالم. قال إن طهران جاهزة لبعض التنازل إنما ليس في مسألة إصرارها على شطب "الحرس الثوري" الإيراني من قائمة الإرهاب، ولا في إصرارها القاطع على عدم السماح للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بأن تسيطر على مستقبل الصناعات النووية في إيران. فالأمل يتضاءل والضوء في نهاية نفق المحادثات النووية بات باهتاً.

ما تحدّث الرئيسان في شأنه بكل شغف واهتمام هو تلك المعاهدة الثنائية الشاملة بين روسيا وإيران والتي بدأ الإعداد لها لأن إتمامها بأسرع ما يمكن مهمّ جدّاً للطرفين لأسباب عديدة. وبحسب المصادر المطلِعة تحدّث الرئيسان عن قيام بوتين بزيارة رسمية الى طهران في أواخر هذه السنة بهدف توقيع تلك المعاهدة الثنائية التي تشابه المعاهدة الاستراتيجية التي وقعتها إيران مع الصين.

فالتقويم الروسي والإيراني لمستقبل المحاور في الشرق الأوسط هو أن الولايات المتحدة تتراجع في لغة وإجراءات المحاور فيما الترويكا تتقدّم ببراغماتية وعناية وحذر وعزم وتصميم. زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الشرق أوسطية لم تفلح في محو تطوّر بالغ الأهمية في الدول الخليجية العربية وفي مقدمها السعودية وهو الاستقلالية التي تبنّتها هذه الدول في أعقاب تجربتها مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ونائبه حينذاك جو بايدن. وطالما أن السعودية لم تعد الى الفلك الأميركي بالطريقة التقليدية، فإن المحور المرجو بقيادة أميركية يبقى ضعيفاً. زيارة بايدن لم تحقق اختراقاً في هذا الأمر، ولذلك موسكو وطهران ليستا قلقتين كثيراً، لا أمنياً ولا نفطيّاً.

ما يثير قلق موسكو هو مستقبل "أوبك+" لأن ذلك سيؤثِر في روسيا بصورة مباشرة. وموسكو تتطلّع بحذر واهتمام الى الاجتماعات المقبلة لمنظمة الـ"أوبك" في أيلول (سبتمبر) المقبل.

عودةً الى تركيا، تَقلق روسيا من رؤية ومشروع رجب طيب أردوغان بشمولية وليس فقط في سوريا. تدرك أن الحزام الأمني الذي يريده أردوغان لتركيا داخل الأراضي السورية بات موضع إصرار أكبر من أردوغان لأنه يرى أن الفرصة مواتية جدّاً لتنفيذه، أولاً بسبب إنشغال روسيا بأوكرانيا، وثانياً بسبب انشغال أميركا بروسيا وبأوكرانيا وبإيران، وثالثاً لأنه استعاد نفوذه وتموضعه داخل حلف شمال الأطلسي لأن "الناتو" في حاجة اليه.

هذا لا يعني أن الرئيس التركي بات محصّناً ومقبولاً تماماً لدى دول "الناتو" أو لدى جيرته لا سيّما عندما ترتكب تركيا أخطاء فادحة ناتجة من عجرفة أردوغان كما حدث في آخر عمليات اقتحام الأراضي العراقية بالذات في مأساة قصف المنتجع العراقي بكردستان الذي أسفر عن مقتل مدنيين. بغداد حمّلت أنقرة مسؤولية القصف لكن أنقرة نفت مسؤوليتها.

المشكلة أعمق وهي تكمن في ثقة أردوغان أن تركيا فوق المحاسبة فيما تلاحق ما تصنّفه الإرهاب الكردي في العراق وسوريا، وأنها نجحت في إخضاع الدول الأورويية مثل السويد بإصرارها على رفض عضويتها في "الناتو" ما لم تتخذ استوكهولم إجراءات طالبت بها أنقرة.

كلمة أخيرة عن قمّة طهران التي حضرها غيابياً "حزب الله" بصفته الذراع الأقوى لإيران داخل سوريا وفي لبنان. الرئيس التركي لا يتعرّض مباشرة لـ"حزب الله" تقليدياً لكنه سيفعل إذا ما اضطر في سوريا حين تبدأ إيران تنفيذ مشروع بوتين هناك.

"حزب الله" يتربّص ليتموضع، إما بجانب إيران أو بالنيابة عنها- حسبما تتطلّب الظروف. إنه يهادن عندما تحتاج طهران المهادنة، ويصعِّد عندما ترتأي القيادة الإيرانية أن الوقت حان. أجندته ليست من أجل استفادة لبنان، ولذلك حوّل مستقبل ثروة الغاز والنفط الى ذخيرة لـ"المقاومة" بدلاً من أن تكون وسيلة انتشال اللبنانيين من كارثة الانهيار الاقتصادي التي تدمّرهم.

"بارومتر" "حزب الله" اليوم يفيد بأنه قد يعرقل ترسيم الحدود البحرية اللبنانية - الإسرائيلية ليس فقط بموجب مراقبته لنتائج المفاوضات النووية الإيرانية، وإنما أيضاً لأنه يريد أمرين أساسيين آخرين هما: أولاً، ضمان حصته من الثروة بدلاً من اعتبارها ثروة سيادية ذلك لأنه لا يعترف بسيادة الدولة ولا حتى بالوطن لبنان. وثانياً، "حزب الله" يرفض أي ترسيم أو مراقبة لأيّة حدود لبنانية – سورية، ولذلك، إنه يخشى فكرة ترسيم الحدود البحرية لأنها تكبّل تحركاته البحرية والبرية وبالذات عمليات التهريب التي يتطلّبها المشروع الإيراني المدعوم روسياً في سوريا بمباركة فلاديمير بوتين شخصياً.

لمن سخرية القدر أن يكون خيار صفقة أميركية - إيرانية - إسرائيلية نووية وأمنية وتهادنية أفضل بكثير لبلادٍ مثل سوريا ولبنان بكل ما تمنحه لإيران ولإسرائيل من أدوات هيمنة واستقواء، مما هو خيار المواجهة العسكرية. فواضح أن روسيا وإيران اتخذتا قرار مصادرة سوريا ولبنان لغاياتهما ومصالحهما القومية وفي حساباتهما التصدّي لإسرائيل هناك حسب الحاجة. أما إدارة بايدن، فإنها ما زالت تتأرجح بين التمنيات بصفقة مع إيران، وبين التردّد بالضغط على طهران وعلى "حزب الله" خوفاً من الانتقام، وبين التهديد باستعادة عقوبات الضغوط القصوى على إيران التي تبناها دونالد ترامب، وبين إلقاء كل اللوم على ترامب لأنه مزّق الاتفاقية النووية مع طهران.

الفرز مستمر، وسط بلبلة سياسية عالمية، يرافقه كثيرٌ من الرعب وقليلٌ من الأمل والخوف البنّاء. لربما أفضل الأحوال في هذا المنعطف هو استمرار الوضع الراهن Status quo في المنطقة العربية بكل سيّئاته في بلاد الشام.