بناء المستقبل

20 تموز 2022 09:10:00 - آخر تحديث: 20 تموز 2022 12:40:53

فئة من النّاس ترى أنّ بناء المستقبل رهن بتطوير الجانبين المادّي والتّكنولوجي في حياتنا باعتبار أنّ المال عصب الحياة ومحرّكها، وأنّ التّكنولوجيا تساهم في تحقيق التّطلّعات لأنّ التّطوّر سمة العصر، وعلى المرء أن يواكب التّكنولوجيا ويكون عصريًّا. بينما فئة ثانية ترى أنّ المستقبل لا يتحقّق إلّا بتعزيز الجانبين الثّقافيّ والفكريّ لأنّ الثّقافة نتاج فكر الإنسان وعصارة إبداعه وانصهاره مع واقعه وعالمه وكيانه ووجوده. فالفكر أساس الوجود الإنسانيّ لتطوير الغد والمضي قدمًا في المستقبل. فأيّ فئة محقّة أكثر؟ وبمَ يختلف أرباب الجانبين المادّيّ والتّكنولوجيّ عن أرباب الجانبين الثّقافيّ والفكريّ؟

اختلف النّاس في كيفيّة تطوير مستقبلهم، إذ رأت الفئة الأولى أنّ الجانبين المادّي والتّكنولوجيّ هما الأساس، ومن خلالهما يعمّ الاستقرار ويتحسّن المستوى المادّي وتصبح الحياة أكثر سعادة ورفاهيّة، ويتسنّى للإنسان أن يحقّق كلّ ما يصبو إليه، فيسرّع في العمليّة الإنتاجيّة والعجلة الاقتصاديّة، ويتمكّن من القيام برحلات استكشافيّة، ومن إجراء الأبحاث والاختبارات واكتشاف الكون من حوله، ويعيش في مأمن من الجوع والفقر والعوز والفاقة، فيأمن ذلّ السّؤال والتّسكّع أمام أبواب الأغنياء، ويتجنّب أزمة نقص الموارد الغذائيّة والإنتاجيّة الّتي تترصّد بابه مهدّدة مستقبله، كما أنّ للجانبين المادّي والتّكنولوجيّ قدرة على  ازدهار المؤسّسات التّربويّة والطّبّيّة والعسكريّة والدّوائر الرّسميّة وعلى تطوير إنتاجها وفعاليتها، وذلك بشراء كلّ الآلات الّتي تحتاجها كآلة التّصوير الشّعاعيّ والمعدّات الطّبّيّة والصّناعيّة والأدوية والأسلحة والألواح الذّكيّة. بمثل هذا التّطوّر نفعّل الإنتاجيّة ونستقطب رؤوس الأموال وننفّذ المشاريع العمرانيّة والإنمائيّة. فبهذين الجانبين أيضًا نحدث ثورة صناعيّة وتجاريّة وطبّيّة وإنمائيّة، ونحدّث البنى التّحتيّة، ما يسهّل تنفيذ الإنجازات والتّعهّدات لإقامة الجسور وتمديد الكهرباء والماء وحفر الآبار الإرتوازيّة بوقت أقلّ وبفعاليّة أكبر.

بينما أرباب الفئة الثّانية فيرون أنّ الجانبين الثّقافيّ والفكريّ هما أساس بناء المستقبل وتطوّره لمدى ارتباط  الثّقافة والفكر ببناء شخصيّة الفرد القائدة والمواكِبة وصاحبة الرّأي السّديد والعقل النّيّر والخيال الخلّاق المبدع. فمن الملاحظ  أنّ الثّقافة والفكر يعملان على غزارة الوعي والإدراك وَفق الظّروف فيتصرّف الفرد بحنكة وذكاء وقدرة على استقطاب الأمور والتّماشي معها، وتعزيز التّفكير الإيجابيّ عنده، لأنّ المعرفة قوّة تجعل المرء يعرف  كيف يبثّ الطّاقة الإيجابيّة في الآخرين ويخلق التّفكير الإيجابي فيبتكر ويبدع ويبني ويجعل مجتمعه ووطنه مزدهرًا بامتلاكه الفكر والثّقافة، ما إن يتعرّض لمشكلة ما حتّى تراه يبادر إلى الحلّ، بما يمتاز من سرعة البديهة والخاطرة، واتّخاذ المواقف الملائمة. فالمثقّفون والمفكّرون يحدثون انقلابًا جذريًّا في بنية المجتمع الفكريّة والثّقافيّة، لذا تراهم عرضة للملاحقة والاغتيال على مرّ العصور. ففي عام 1916 كان الشّاعر بشارة الخوري الملقّب بالأخطل الصّغير يجلس في مكتبه في جريدة البرق فتسلّم ورقة صغيرة من صديقه الكاتب محمد كرو علي يقول فيها: "أترك كلّ شيء وأحرق ما لديك من أوراق ووثائق"، وقد كان القادة السّياسيّون العرب يجتمعون في مكاتب جريدة البرق، ففعل الأخطل وهرب إلى ريفون ونزل عند صديقه الأباتي بستاني، واختبأ هناك باسم حنّا فيّاض، ومن هناك بدأ يراسل أصدقاءه باسم الأخطل الصّغير. كما كتب ابن المقفّع كتابه على ألسنة الحيوانات والطّير نقدًا للواقع الفكريّ والأخلاقيّ والسّياسيّ، وسعيًا إلى إصلاحه والعمل على تغيير هذا الواقع المرير بطريقة مباشرة متوسّلًا بالشّخصيّات الحيوانيّة كرموز للحدث، وقد دفع حياته ثمنًا لذلك، إذ أوعزت السّلطة الحاكمة أي الخليفة بقتله. فالمثقّف والمفكّر مرآة الأمّة  ولسان حالها يرسّخان القيم في فكر النّاس وسلوكهم لأنّ الكلمة السّلاح الأمضى والأقوى.

 أمّا بالنّسبة لي فأرى أنّ الجانبين المادّيّ والتّكنولوجيّ مهمّان ولا يمكن الاستغناء عنهما، فلولاهما لما تقدّم الكون وتطوّر العمران وفاض الإنتاج وعمرت الصّناعة وازدهرت التّجارة، لأنّ المال مرتكز أساسيّ في حياتنا:" الدّراهم كالمراهم تشفي القلب العليل، تخليك من الملوك، تملك كلّ صعلوك، حتّى لو كنت صعلوك(1)."  كما أنّ الجانبين الثّقافيّ والفكريّ مقوّمان أساسيّان في حياتنا لأنّ الفكر هبة الله، والله خصّ الإنسان بعقله وفكره ووعيه وإدراكه وثقافته وقدرته على تمييز الأمور وتجنّب المضرّ والمسيء. فموقفي توافقيّ بين الجانبين الماديّ والتّكنولوجيّ من جهة والجانبين الثّقافيّ والفكريّ من جهة أخرى. حيث إنّ المشاريع تقوم على الرّساميل، والرّساميل مفردها رأسمال أي رأس يفكّر ويخطّط ويدرس ويحلّل ويعلّل ويناقش ويفسّر، ومال ينفّذ ويشيّد ويطبّق  ويسمح بتحقيق الطّموحات، "الفقر جنازير السّباع"، كم من مؤلّفين ومفكّرين لا يتمكّنون من نشر مؤلّفاتهم  وطباعة إصداراتهم بسبب ضيق حالهم!
بناء على ما ذكر، ينتظم المستقبل ويبنى ويتطوّر ثقافيًّا وفكريًّا بفضل التّخطيط والوعي ورسم الأهداف وينمو مادّيًّا وتكنولوجيًّا بفضل المتابعة والعمل والمثابرة ومواكبة كلّ جديد. فهل سننعم بالجانبين المادّيّ والتّكنولوجيّ بالتّنسيق والتّوافق مع الجانبين الثّقافيّ والفكريّ ليرقى مجتمعنا العربي ويزدهر وطننا الأم بكلّ أطيافه ومرافقه؟  

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".