الإضراب المفتوح لموظفي القطاع العام دخل أسبوعه الخامس ومستمرّ. والتوقف في ظلّه عن جباية الضرائب وتحصيل الرسوم وتعطيل مؤسسات الدولة هو خلف التقهقر الحاصل ـ كما يحلو لأهل الحل والربط الإيحاء - كأن ما سبق الإضراب كان «سمناً على عسل». التضخّم غير المنطقي في حجم القطاع له ما له وما عليه بالطبع. لكن إلقاء الملامة على الموظف الرسمي بالدرجة الأولى يحمل في طيّاته الكثير من التضليل. ففتيل الهدر بنكهة الفساد - الذي بدأت مفاعيله تظهر جليّة في عجز الموازنة والمالية العامة كما في عجز الميزان التجاري منذ العام 1993 – إمتداداته أكثر تشعّباً وأشدّ تجذّراً. وكما يقال: الأرقام لا تكذب.
الهدر، وبأقل تقدير، هو مزيج متفجّر من عوامل عدة: تدخّلات سياسية في عمل القضاء، تفعيل حصانات كضمانة للإفلات من العقاب، زبائنية في التوظيفات داخل الإدارات العامة، ومحاصصات طائفية. فالأخيرة أدّت، بحسب البنك الدولي، إلى تحميل الخزينة العامة كلفة هدر سنوي تخطت الـ5 مليارات دولار. لا بل أكثر. فلبنان، بحسب مؤشر مدركات الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية بنسخته الأخيرة، صُنّف في المرتبة 154 بين 180 دولة في العالم. كيف لا ومكافحة الفساد داخل مؤسسات الدولة وإداراتها كما ضمن سياساتها المالية والتوظيفية والصفقات بالتراضي أثر بعد عين؟ ذلك كلّه تُرجم تراكماً في الدين العام وفوائده، تهرّباً ضريبياً وتوظيفات عشوائية، هدراً متمادياً في ملفات الكهرباء والطاقة واستئجار المباني الحكومية وقطاع البنى التحتية والسدود وغيرها من لائحة تطول ولا تنتهي.
في ما يلي نحاول إلقاء الضوء على أبرز مسبّبات الهدر والفساد مع كل من مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية ورئيس الهيئة الأهلية لمكافحة الفساد، الدكتور أمين صالح، والعضو القانوني في المرصد الشعبي لمكافحة الفساد، المحامي جاد طعمة. مع الإشارة إلى أن الأرقام الواردة صادرة عن تقارير من الوزارات والمؤسسات العامة اللبنانية، إضافة إلى تقارير البنك الدولي والمؤتمرات العالمية. فلدخل في التفاصيل.