توالت الأزمات في السنوات الأخيرة لتزيد من الهشاشة النفسيّة لدى اللبنانيين الذين خبروا الحرب الأهلية والإعتداءات الصهيونية واليوم الحرب الإقتصادية وما بينها جميعا الخضّات السياسيّة والأمنية المتفرقة.
وقد وصل الحال باللبناني اليوم إلى ما يسمّى بالتأقلم السلبي والإستسلام للواقع بشكل يشير بأنّ صحته النفسيّة ليست على ما يرام، فهو يعمل ليلا نهارا، كآلة من دون أحاسيس ومشاعر أو بمشاعر بلغت الحضيض في بؤسها.
إلى ذلك، ومع التحفظ على طرق استخدامها المدمّرة وعلى آثارها الجانبية، لطالما شكّلت أدوية الأعصاب أو الحبوب المهدئة ملاذا لكثير من اللبنانيين لاستيعاب الأزمات المتتالية، واليوم يتزايد الطلب عليها أضعافا علّها تسكن ضجيج حياتهم المرهقة، في ظلّ صعوبة العلاج النفسي الذي أصبح مكلفا، بحيث تبلغ أقل جلسة 50 دولارا بعضها بالدولار الفريش.
لست مرتاحة بعد إيقاف الدواء
سناء (40 عاما)، موظفة، تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، تركت الدواء نهائيا بعد ارتفاع سعره، تخبر «الديار» أنّها بدأت باستخدام العلاج منذ نحو 5 سنوات، إثر صدمة نفسية أصابتها، فنصحها حينها أحد الأطباء النفسيين بتناول دواء «سيبراليكس» وسعره كان يبلغ نحو 40 ألف ليرة.
إستمرت سناء بتناول الدواء إلى أن بدأ يرتفع سعره شيئا فشيئا، فبدأت بتخفيف الجرعات، ثم بحثت عن بديل، لكنه لم يكن بنفس فعالية الدواء الأصلي، إلى أن قررت إيقاف الدواء نهائيا، وقالت: «لست مرتاحة تماما بعد إيقاف الدواء فأحيانا أشعر بأعراض حزن شديد وإحباط وخوف وأمتنع لأيام عن تناول الطعام وأنام كثيرا وهذا يؤثر على عملي وعلاقاتي بمن حولي كما أنّه لدي خوف دائم من أن تتأزم حالتي نتيجة الظروف الضاغطة التي أعيشها في حياتي وأن أصبح بحاجة للدواء مجددا ولا أستطيع شراءه».
اللبناني قلق ومكتئب
فماذا نعني بالصحة النفسية؟ وأين نحن من الإهتمام بها في لبنان؟ مم نعاني نفسيا؟ وكيف نحد من المضاعفات؟
أسئلة وغيرها طرحتها «الديار» على نقيبة النفسانيين في لبنان الدكتورة ليلى عاقوري ديراني التي أشارت إلى أنّ الصحة النفسية مكونة من عدّة عناصر أهمها أن يكون لدى الشخص القدرات الكافية للتفاعل مع مهماته في الحياة، ومع المفاجآت التي تطرأ عليه إن كانت مشاكل أو أشياء إيجابية، وحين يستطيع فعل ذلك بطريقة متزنة لا تشلّ قدرته على التفاعل الدائم مع الآخرين والتوازن الذاتي والإنتاجية العملية، فهذه مؤشرات على تحقّق الصحة النفسية لديه.
وتشير إلى أنّ موضوع الصحة النفسية في لبنان قديم، لكنّه أصبح ملحا اليوم، وبدأنا نشهد توجها كبيرا إلى عياداتنا أو استشارات في الصحة النفسية نتيجة كلّ ما حصل في هذا البلد من جائحة كورونا حتى الآن، ومن أبرز الإضطرابات النفسيّة التي تنتشر بكثرة القلق والإكتئاب، ويظهر بمفاعيله الجسدية، لافتة إلى معاينة هذه الحالات كثيرا عند الأطفال، ومنها قلق الإنفصال، قلق النوم بمفردهم، إضافة إلى حالات اضطرابات المزاج والكآبة بمعنى الإحباط الذي يؤثر جدا على جودة حياة الشخص، وليس الكآبة المرضية التي ينقطع خلالها المريض عن القيام بواجباته.
اللحمة العائلية والعاطفية حاليا!
مع ضيق سبل العيش لم يعد الإهتمام بالنفس أولوية في حياة أحد من اللبنانيين لا سيّما مع الأكلاف المرتفعة للتعرفة والجلسات، ومثلها الأدوية التي توصف في بعض الإضطرابات، عدا عن انقطاعها المستمر من الأسواق بين الحين والآخر. والسؤال هنا: ما السبيل أمام اللبناني هنا؟
لا تنكر ديراني أنّنا أمام معضلة وأنّ هناك كلفة مرتفعة للعلاجات وأنّ الأدوية غير متوفرة، موضحة أنّ ما نحاول فعله كنفسانيين هو الشعور بمعاناة الآخرين وطلب المقبول منهم، كي يعيش «النفساني» بكرامته، ولكن حتى «المقبول» لم يعد بمتناول المريض، وأفصحت عن مبادرة قامت بها بالتواصل مع وزارتي الصحة والتربية تهدف لتدريب «النفسانيين» المبتدئين في المستوصفات كي يكونوا أكثر فعالية، داعية كلّ مبادرة بهذا التوجه وكلّ من يريد أن يساعد ويساند التواصل مع النقابة، وشدّدت على التعاضد والتعاون الإجتماعي واللحمة العائلية والعاطفية والصداقة، فالإنسان عندما يحاط بأشخاص طيبين يكون محميا بالأزمات أكثر من غيره، داعية لأن ننقّي نفوسنا ونعطي هذا الطيف الجميل لمن حولنا، مشيرة إلى هذا الأمر لا يحل المشكلة ولكن يساند إلى حد كبير.
كيف نتصرف
في حالات الإضطرابات النفسية؟
عند الحديث عن الأمراض النفسية يكون الأمر مخيفا وحسّاسا أكثر، فهناك مرضى قد يصلون للإنتحار أو لقتل الآخرين، في حال توقفوا عن أخذ العلاج الدوائي وكذلك الجلسات، تجيب ديراني بأنّه ليس علينا أن نخاف من الشخص المصاب باضطراب ونعتبره شريرا، أو نظهر له خوفنا أو نعزله، ونصحت بالتوجه الى قسم الطوارىء بالمستشفيات إذ بمقدورهم القيام بالإسعافات الأولية وتجنب الكوارث لشخص مهدد بالإنتحار أو مصاب بنوبة غضب شديدة، وكذلك اللجوء إلى قوى الأمن التي يمكن أن تضبط الشخص العنيف، ووضعه قسرا في مراكز إستشفاء تستقبل المريض إما على حساب الوزارة أو على حساب المؤسسات، منها دور الشفاء والعجزة والصليب، كما توجد مستوصفات وجمعيات أهلية وجامعات تقدم خدمات العلاج المستمر والمستدام بجودة عالية ، منها الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف وغيرها.
مؤخرا بدأت تنتظم مهنة العلاج النفسي في لبنان، فما الفائدة التي تعود على المختص والمريض من خلال ذلك؟
في إجابتها وصفت ديراني هذه الخطوة بالإنجاز «لأنّنا ناضلنا كثيرا لنصل إليها»، وسيلحظ المنتسب أنّ مهنته مصانة، ولا يستطيع أيّ طارىء سبيل الإدّعاء بأنّه نفساني ويعمل وبشكل خاطىء ويخفف من الثقة بهذه المهنة، كما سيحصل على تدريبات بأسعار مقبولة وجودة عالية، ضمن مسار التدريب المستمر، ولن تنتهك حقوق النفساني الموظف وسنسعى لرفع شأنه وشروط وظيفته، كالنفساني التربوي مثلا، وسيتم إنشاء صندوق تعاضد، فمهمة النقابة أن تصون كرامة المهني وتحافظ على حقوقه وصورته، أمّا المستفيد أو المريض سيميز بين من يملك إذن مزاولة مهنة وكفوء وبين الذي لا يملك ذلك، كما يمكنه الشكوى في حال حصول أيّ خلل أخلاقي.
الإهتمام بالنفس للأغنياء فقط!
أصبح العلاج والطب النفسي بمتناول الأغنياء فقط، في حين أن نسبة إنتشار الأعراض والأمراض النفسية عند الفقراء، تفوق بأضعاف مثيلتها عند الأغنياء.
لا توافق ديراني على هذه النظرية، فالدراسات لم تثبت بأن الأمراض النفسية موجودة عند الفقراء أكثر من الأغنياء، لكن الفرق أنّ الإرهاق الإجتماعي يكون أكثر عند الفقير الذي يشعر بقوة المرض بمجرد أنّه متواجد في بيئة تضم تحديات أكثر من بيئة الشخص الغني، مضيفة أنّ ما يصيب الفقير أكثر، هو صعوبة الوصول الى المعلومات، فهناك من لا يعرف أنّ هذا مرضا يحتاج إلى علاج وأحيانا يرفضه، ويجب أن يعلم أن هناك وسائل شبه مجانية يمكنه الإستفادة منها، ودعت إلى خطة توعية متكاملة عن طبيعة الأمراض والإضطرابات النفسية، وإسعافاتها الأولية والمراكز التي تقدم هذه الخدمات، وأردفت:» صحيح أن العلاجات باهظة الثمن ومنهكة، ولكن هناك خطوات كثيرة يمكن القيام بها قبل الوصول إلى هذه المرحلة لتحصين النفس من الإضطرابات النفسية».
وكشفت أنّ هناك دراسات أظهرت - بالمقارنة مع النسب العالمية - أن نسب الحالات النفسيّة ارتفعت في لبنان بعد الإنهيار الإقتصادي وانفجار المرفأ في 4 آب، فيما كانت سابقا ضمن النسب العالمية أو بفوراق بسيطة، وبموجبها زادت نسب القلق وحالات الإضطرابات بعد الصدمة، فيما أبدت تحفظها على هذه الإحصاءات باعتبار أنّها لم تشمل كل الأراضي اللبنانية، واقتصرت على مجموعات صغيرة من الناس.
«الناس مش ناقصها»
الأخصائي في العلوم المخبرية والسريرية والباحث في العلوم الدوائية الدكتور محمد خيامي يقول لـ»الديار» إنّ الكلّ يعرف حجم المشاكل الصحية في لبنان، لكن من غير المسموح أن يكون هناك نقص في الأدوية الخاصة بعلاجات مرضى الحالات النفسيّة إن كانت أدوية الأعصاب أو المهدئات أو الأدوية النفسية المزمنة، فالتأثير السلبي لعدم تناولها يمكن أن يصل بأصحابها إلى مراحل صعبة جدا، كالإنتحار والمشاكل العائلية مع الأهل والمحيط وسواها، و»الناس مش ناقصها».
من 100 ألف ليرة إلى ملايين الليرات
على ضفة الأسعار تطرّق خيامي لمعاناة الصيادلة مع مستهلكي هذه الأدوية لافتا إلى أنّه بعد رفع الدعم جزئيا ارتفعت أسعارها بشكل جنوني أدى ببعض المرضى إلى تقليص الجرعات، فالبعض أصبح يتناول حبة يوما بعد يوم، وبعضهم نصف حبة يوميا بدل حبة كاملة، فقد كان سعر بعض الأدوية النفسية رخيص جدا سابقا يترواح بين 7000 و15000 ليرة، فيما يبدأ اليوم سعر الدواء العادي أي «مهدىء الأعصاب» وليس العلاج من 100 ألف ليرة وصولا إلى ملايين الليرات، كما أنّ الأدوية ليست متوفرة دائما، والسبب الآلية المتبعة بين وزارة الصحة ومصرف لبنان، فالوزارة هي التي تعطي إذن استيراد وتتأخر بدراسة الملفات، ومثلها مصرف لبنان، كما أنّ هناك حذر لديهم لتخوفهم من التهريب، فمثلا إذا طلب الوكيل 10 آلاف قطعة تتّم الموافقة على 2000 قطعة تكفيه لمدّة شهرين وليس لستة أشهر كما طلب فينقطع الدواء، واليوم هناك أكثر من 90% من الأدوية النفسية مقطوع بسبب الروتين الإداري.
ماذا عن البدائل؟
برأي خيامي، المشكلة هي أنّ التصنيع المحلي ضعيف جدا، والبدائل المحلية قليلة، لأنّ سياستنا الصحية بنيت بطريقة خاطئة ولم تشجع الصناعة الدوائية المحلية، بحيث تنتج مصانعنا بين 15 أو 20% من حاجتنا من الدواء و80 أو 85% منها مستورد، محذرا من شراء الأدوية من أماكن غير مرخصة لا تضم أخصائيين وصيادلة، فقد تكون الأدوية مهربة ومزورة ومقلدة و مخزّنة بطريقة غير سليمة، داعيا الناس إلى عدم تصديق إعلانات الأدوية البديلة والرخيصة التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونصح بعدم استعمال أي دواء الا باستشارة المختصين، كما لفت إلى ارتفاع أسعار الأدوية كثيرا بعد رفع الدعم، مثل دواء السكري الذي أصبح سعره مليون ونصف بعد أن كان سعره 75 ألف ليرة، فالدولار متحكم بموضوع الدواء، وهذا يعرضنا كاخصائيين إلى مواجهة من الناس في حال كان مؤشر الدواء على دولار 28 ألف ليرة وأصبح 30 ألف ليرة واضطررنا لتغيير سعره، وختم بأنّ هذه المشكلة تحتاج حلا وسياسة صحية وأن يكون السعر ثابتا منعا للفوضى.
خلاصة القول... الإنسان نفس وجسد، وفي لبنان بات الإهتمام بصحة الجسد قلقا، وبصحة النفس ترفا، فماذا تبقى إذا من إنسان لبنان؟