شيخ العقل أمّ صلاة الأضحى في شانيه: لبنان يستحق التضحية لإنقاذه من خطر وجودي ‏يهدد مستقبله

09 تموز 2022 09:36:40

أمّ سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى المصلين صبيحة عيد ‏الأضحى المبارَك، في مقام المرحوم الشيخ ابو حسين شبلي ابي المنى في بلدة شانيه، بمشاركة ‏جمع من المشايخ والفاعليات الروحية والاجتماعية واعضاء ومسؤولين من المجلس المذهبي لطائفة ‏الموحدين الدروز.‏

وبعد الصلاة القى الشيخ ابي المنى خطبة العيد، جاء فيها:‏

بسـم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسلام على سيّد المرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين، ومن ‏تَبِعَهُم بإحسان إلى يوم الدّين...‏

الأخوةُ المُصلُّون، أيُّها الموحِّدون المؤمنون المسلمون...‏

قال تعالى في كتابه العزيز: "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ". ‏‏(البقرة، 115)وقال عَزَّ مِن قائل: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ‏وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا ‏عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ". ‏‏(البقرة، 177)‏

من هذا المنطلَّقِ الإيمانيِّ، ومن تلك الرسالة الاجتماعية القرآنية المُنزَلة، نتوجَّهُ إليكم صبيحةَ ‏الأضحى المبارَك بالمعايدة القلبية والتهنئة والدعاء، ونحن نحتفلُ وإيَّاكم ببلوغ العاشر من ذي ‏الحجَّة، وقد بلغ السعيُ تمامَه والحجُّ مَرامَه، داعين وإيَّاكم في مثل هذا المقام إلى تسديد الطاقاتِ ‏نحو الخير، بصفاءِ قلب ونقاء ضمير وعُلوّ هِمَّة.‏

 

إخواني الموحِّدين المؤمنين،

عندما نسألُ الله تعالى في هذه الأيّام الكريمة أن يُعينَنا على امتثال أمر الحقّ وعلى الرّضوخ ‏بخشوع إلى ما تفرضُه المُثُل الحميدةُ تجاهَ ذواتِنا وتجاهَ مجتمعنا وأمّتنا، وأن يشُدَّ عزمَنا لتزكية ‏النفوس وتنقية القلوب وتحكيمِالعقول والتعاضد والائتلاف حول كلمة التّوحيدالجامعة، وأن يجمعَ ‏شملَنا على الخير، ففي السؤالِ تأكيدٌ منَّا على الواجبِ والمسؤولية، يما يعنيه ذلك من العملِ بنوايا ‏صافية وإراداتٍ غير متثاقلة وإدارةٍ حكيمة لكي نستحقَّ القبولَ عنده تعالى، واستحقاقُ القَبول يوجبُ ‏علينا السَّعيَ الدائمَ واليقِظَ إلى تهذيبِ الجوارح وإصلاحِ الأعمال وفقَ مقاصِد الآيات البيِّنات ‏وتطهيرِ الجَنَان من كلّ ما يخالفُ الحقَّ ويُعيقُ المسافرةَ في درجاتِه، وفي ذلك يتحقَّقُ القصدُ من ‏الفريضة الدينية وتُبلَغُ غايةُ الحجِّ.‏

إن المؤمنَ لا يسعُه أمام مرآة الحقّ إلاّ أن يصدعَ لأمر الله تعالى، بالخشوع والتواضع ومذلَّة ‏النّفس، وهذا ما ينعكسُ على سلوكيّاته، بدءاً من تعاملِه مع نفسِه ومع عائلتِه ومجتمعه القريب، ‏وإذّاك تكون الليالي والأيامُالمبارَكة فسحةً للخير وسبيلاً للارتقاء ومحطةً للإصلاح، ويكونُ العيدُ ‏قائماً بمعناه الروحيّ الّذي يُرجى تحقيقُه، لا بمظهرِه الزمنيِّ وحسب.‏

إنَّ القربانَ الحقيقيَّ الذي يتقبّلُه الله سبحانه وتعالى هو التضحيةُ بحظوظ النّفس من أجل خير ‏الجماعة، وبذلُما تنزع إليه أهواؤُها في سبيل خدمة المصلحة العامّة، والخروجُ من النظرة الفرديّة ‏إلى الرؤية الأشمل، ومن الحيِّز الضيِّق إلى فسحة الحق، والارتقاءُ في المعراج الإنساني النبيل إلى ‏المستوى الرّفيع من السلوك، بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكَر،وذلك بالسعي ‏الدؤوب بوحيٍ من ضميرٍ وإيمان، وبمبادلةِالجفاء بالمحبّة، والنفورِ بالألفة، والأقاويلِ ‏المغرضةبالانكبابِ على العمل المفيدِ والمنتِج، لتكونَ ذمّتُنا براءَأمام الواحد الأحد، وضميرُنا في ‏سكينةٍ واطمئنان، إذ نلبِّي بذلك قولَه تعالى: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ". (آل عمران، 104)‏

 

أيُّها الأخوةُ والأحبَّة،

إنّ تضافرَ الجهود من أجل الخدمة في الحقل العام، والعملَ على تحقيق الانجازات التي تنفع الناسَ ‏يفرضُ علينا موجِبات الالتزام الصادقِ والشعور بالمسؤوليّة من باب المحافظة على جوهر التعاليم ‏السامية، ويقينُنا أن ما يُعرقلُ إرادةَ الخير هو التشبّثُ بالأفكار المُسبَقة والمصالحِ الضيّقة، والرّكونُ ‏إلى عصبيّة الأنانيّة والتقوقع، وعدمُ الاكتراث بواقع التّشرذم، والاستسلامُ أمام الأمر الواقع الذي ‏يُهيِّئُ عواملَ التفرقة والنُّفور، وما أصعبَالغُربة بين الأهل والإخوان، وما أوحشَ النفور بينهم، وهو ‏ما يأباه ضميرُنا، وما تأنفُ منه مشاعرُنا، لأنّه يناقضُ مبادئَ وخصالاً أساسيّة، هي بمثابة الأصول ‏في تراثنا الإسلاميِّ التوحيديِّ والوطنيِّ الأثيل.‏

 

إخواني الكرام، أيُّها المسلمون، أيُّها اللبنانيُّون..‏

مع إطلالة هذا العيد المبارك، ومعَ ما يرفعُه حجَّاجُ بيتِ الله الحرام والمُضحِّين اليومَ على جبلِ ‏عرفة من دعواتٍ وصلوات، يحدونا الأملُ بأن يبادرَ السياسيون والمسؤولون، بمثل هذا الحجِّ ‏والقصد ومثل ِتلك التضحية، وكلٌّ من موقعِه، سعياً دونَ كلل، وطَوافاً دائماً وتلبيةً مندفعة ورمياً ‏بعيداً لجمار الحقد ونحراً وقتلاً للضغائن، وحصراً للخلافات والمناكفات، وردماً للغة التصعيد ‏والمنافرة التي سئمها اللبنانيون، وبحثاً صادقاً عنِالسبل الناجعة لمعالجة قضايا الناس المعيشية التي ‏هي أُولى الأولويات.‏

من أجل تحقيق هذا الأمل المنشود، وغايةِ هذا العيدِ المبارَك، يطيبُ لنا أن نقدِّمَ الأضاحي المرجوَّة ‏وأن ندعوَ الجميعَ للتضحية من أجل خيرِ أنفسِنا وخيرِ الوطن:‏

فلْنُضحِّ بالشهوات والأهواء، مرتفعين بنوايانا وأقوالِنا وأفعالِنا إلى ما هو أسمى وأرقى لتحقيق ‏إنسانيّتنا وبلوغِ غاية وجودِنا..‏

ولنُضحِّ بأنانياتِنا ونزَعاتنا الذاتيّة ونزاعاتِنا الفردية والاجتماعية من أجل قيام مجتمع الفضيلة والخير ‏والرحمة والمعروف...‏

ولْنُقدِّمِ الأضاحي من أجلِ لبنانَ وشعبِه المكسور، ومن أجل خلاصِ الوطن وإنقاذ ما تبقَّى لدى ‏اللبنانيين من أمل...‏

ولْيُضحِّ المسؤولون برغباتِهم ومشاريعِهم الفئوية والطائفية من أجل مشروع الدولة الذي طال ‏انتظارُه...‏

وليُضحِّ الرئيسُ تلوَ الرئيس، والوزيرُ والنائبُ وكلُّ صاحبِ كرسيٍّ في هذه الدولة ببعضٍ ممَّا ‏يشتهونَه ويتناحرون عليه من أجل تأمين حاجةٍ صحيَّةٍ أو تعليميةٍ أو سكنيةٍ أو معيشيةٍ لأناسٍ ‏أصبحوا على حافَّة الهاوية، وبعضُ كبار القوم لا يأبهون... ولنُضحِّ جميعُنا بكلِّ ما يُسيءُ إلى ‏علاقات لبنانَ الطيبةِ مع أشقّائه العرب ومع أصدقائه في المنطقة والعالم، ففي ذلك سبيلٌ لبلوغ العيد ‏وخلاص لبنان.‏

إنَّ مسؤوليةَ التدهور الاقتصادي والانهيارِ العام تقع على عاتق أهلِ الحكمِ والسلطة الذين أوصلوا ‏البلاد إلى ما وصلت إليه، وأولئك الذين ما زالوا يُعيقون مسيرةَ الإصلاح وتيسيرَ أمرِ الدولة، ‏ويضعون الشروطَ التعجيزيةَ أمام تشكيل الحكومة، والذين ينامون ملءَ أعينِهم أو يَغطُّون في سُباتٍ ‏عميق، في حينَ تتضاعفُ المآسي الاجتماعية وتشتدُّ الأزماتُ المعيشية، وتتفاقمُ أزمةُ المُودِعين ‏فيُجبَرون على سحب أموالهم بالسعر المتدنِّي غصباً عنهم، وكخيارٍ لا مفرَّ منه، وذلك في سرقةٍ ‏موصوفةٍ لأموالِهم، ومؤسساتُ الدولة تترهَّلُ وتُقفلُ أبوابَها وخدماتِها في وجهِ طالبيها ولا تقوى ‏على مواجهةِ الازمات وحلِّ مشاكل المواطنين، ممَّا يُشكل خطراً على مستقبل الدولةِ وثقة الناس ‏بالوطن.‏

ألا يُفترَضُ بالقادة المسؤولين اجتراحَ الحلول والمخارج لهذه الأزمات، للتخفيف ممَّا يُعانيه ‏اللبنانيون من ألمٍ وضيقةٍ، وما يواجهونه من مآسٍ اقتصادية ومعيشية واجتماعية وصحية وتعليمية؟ ‏ألا يَجدرُ بهم التزامَ روحية الدستور والتضامنَ لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية؟ فلبنانُ التراثُ ‏والتنوُّعُ والحريَّةُ والعيشُ المشترَك والوحدة، لبنانُ التاريخ والحضارةُ والعروبةُ والانفتاح، لبنانُ ‏المحبةُ والرحمةُ والأخوَّةُ جديرٌ بالوفاء ويستحقُّ التضحيةَ لإنقاذه من خطرٍ وجوديٍّ يُهدّدُ مستقبله، ‏والتغييرُ الحقيقيُّ الذي يرجوه شبابُنا يكونُبالإصلاح وإنقاذِ ما تبقّى من مؤسساتٍ وقيَمٍ أخلاقيةٍ ‏ووطنيَّة، وليس بهدم ما تبقَّى.‏

 

إخواني في رحابِ الله والأضحى المبارَك...‏

إنَّ العيدَ الكبيرَ معناهُ العودةُ إلى الذات ومراجعتُها ومساءلتُها والنهوضُ بِقواها الحيَّة، فعسى أن ‏نُدركَ معناه ونسعى إلى تحقيقِه، وعسى أن يحمِلَ العيدُ في طيَّاته الأملَ، وأن تَحمِلَ هذه الأيامُ ‏المباركة في ثناياها الخيرَ للبنانيين جميعاً وللعرب والمسلمين، إذا ما راجعوا أنفسَهم واستنهضوا ‏قواهم وطردوا من دواخلِهم ما يُقلقُهم وما يُفسدُ الوُدَّ بينهم، واندفعوا معاً في سبيل تثبيت عيشهم ‏المشترك وتضامنِهم المأمول لصون وطنِهم وحفظِ أمّـتِهم.‏

إنَّه رجاءُ الأضحى، وإنه تعالى السميعُ المجيب، لا رجاءَ إلَّا به، ولا ملجأَ إلا إليه، وله الحمدُ في ‏كلِّ بَدءٍ وختام.‏

أضحى مبارَك، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.‏