حلّت الأزمات على اللبنانيّين كالـ"تسونامي" مُبدِّلة في العديد من المُعادلات والمفاهيم والمُعتقدات الإجتماعيّة المُتعارف عليها خصوصاً في عالم الوظائف والأعمال، ولم يُعد السّؤال الأشهر في لبنان "ماذا تعمل؟"، بل أصبح بكلّ بساطة "فريش أو لبنانيّ؟"
في الزّمن القريب، كان اللبنانيّون يتباهون بتحصيلهم شهادات في مجالات عدّة يحصلون من خلالها على ألقابٍ مرموقة في المجتمع كـ"مهندسٍ" و"مصرفيّ" و"طبيب"، و"أستاذ"، وغيرها، ويرفعون إسم لبنان في مجالاتهم ويتقاضون رواتب "مُحترمة" مقابل سنوات دراساتهم الطّويلة، ولكن، ومع تبدّل الظّروف، وبعد ما حلّ بلبنان من أزمات مُختلفة، بات يعاني أصحاب الشهادات بشكلٍ كبير، حتّى فضّل قسمٌ كبيرٌ منهم الهجرة الى بلدان تُقدَّر فيها الشهادات ماديّاً ومعنوّياً.
ومقابل هذا الواقع، نمت مهنٌ أخرى، لم تكن تحظى باهتمامٍ كبيرٍ من قِبَل اللبنانيّين وخصوصاً الفئات الشابّة التي، إما لم تتلقَ التوجيه المُناسب قبيل التخرّج من المدرسة، أو أنها اختارت اختصاصات "بريستيج" تُحقّق لها مكانة مُعيّنة في المجتمع، في وقتٍ كان السّوق اللبناني، ولا يزال يعاني من شحٍّ كبيرٍ في مهنٍ قد تُعتبر تقليديّة ولكنها ضروريّة لضمان استمرارية عجلة الحياة، خصوصاً عندما يدور دولاب الانهيار والحظّ السيء دورته على مصير شعب.
"نجّار"، "منَجِّد"، "حَدّاد"، "كَهربجي"، "مصلِّح أدوات كهربائيّة"، "سنكري"، "ميكانيسيان"، "دهّان"، مهنٌ اقتربت من الانقراض في لبنان، ها قد عادت الأزمة الإقتصاديّة لتُنعشها من جديد وتبثُّ فيها الحياة، ليس هذا فقط، بل إنّ مدخول أصحاب هذه المهن، وعددٌ كبير منهم من العمّال الاجانب، أصبح بالدولار على عكس عددٍ لا بأس به من الوظائف الأخرى. واللاّفت هو الحاجة الكبيرة لهذه المهن في وقتٍ يتعذّر فيه على اللبنانيّين شراء أيّ جديد خصوصاً ضمن نطاق حاجات وأساسيّات المنزل، أو حتّى السيارة، واللّجوء الى خيار أقرب الى الواقعيّة هو "التصليح" هرباً من دفع الكثير من المال.
لم ينتظر أصحاب هذه المهن الضّوء الأخضر لتعديل تسعيراتهم وبدل أتعابهم، فباتوا يطلبون أجرهم بالدّولار أو على سعر الصّرف في السوق الموازية، فضلاً عن أنّ القطع المُستعملة أو المطلوبة في عملية "التصليح" تُسعَّر أيضاً بالدولار، وأصبح هذا الامر شرطاً أساسيّاً يضعونه قبيل الشروع في عملهم. فمثلاً أصبح خبير الكهرباء، يطلب بدل عمله يوميّاً بالدّولار كـ 50 دولاراً مثلاً، وهو ما يوازي حوالي مليون ونصف مليون ليرة، وهو راتبُ شهرٍ كامل لأستاذ، أو حتى أساس راتب موظّف في مصرف!
كثيرةٌ هي الدروس المُستقاة من واقع ما يعيشه اللبنانيّ، قد يكون أبرزها أنّ من يسعى لمهنة أو شهادة من أجل "البرستيج" لا يعني أنه سيعيش في "بحبوحة"، و"التّوجيه" هو أسمى مادّة يُمكن أن تدرّس في حرم المؤسسات التربوية، والأهم: "الشّغل شو ما كان مش عيب"!