عُدنا إلى مسرحية التكليف والتأليف وإلى الحلقة الفارغة عينها مع الأقطاب عينهم، والدوامة ذاتها، لكن في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة تتفاقم يوماً بعد يوم. علماً أنّ عملية التكليف هي عملية دستورية روتينية، ولن نُهنّىء ولن نُصفّق لهذا الواجب الوطني.
نالَ الرئيس المكلّف 54 صوتاً، وهذا يعني أن ثمة 54 نائباً ممثلين للشعب، تم انتخابهم أخيراً، راضين بنتائج إدارة الحكومة السابقة، ويُؤيدون كل مقترحاتها من خطة التعافي الكارثية، لا بل كرة النار التي رُميت في آخر يوم من ولايتها إلى مجلس النواب، وأيضاً يؤيدون خطة «الكابيتال كونترول» التي فيها كل شيء إلاّ «الكابيتال كونترول»، وأيضاً مسودة الموازنة التي هي بالحقيقة موازنة ضريبية بامتياز، وأيضاً كل قرارات واستراتيجية إدارة الأزمة في الحكومة السابقة، وهي حكومة تصريف الأعمال اليوم. لكن على الأقل، هؤلاء النواب منحوا رأيهم الشفاف والديموقراطي لهذا التكليف.
في المقابل، ثمة 25 نائباً صوّتوا للسفير نواف سلام، الذي نفخر بسيرته الذاتية، وخبرته الدبلوماسية المعروفة دولياً، لكن كنا نُحبّذ أن نسمع رؤيته الواضحة واستراتيجيته المقترحة لإعادة الهيكلة والحدّ من الانهيار. ونحن نؤيد حملة انتخابية واضحة وشفّافة لرئاسة الحكومة، وقيادة السلطة التنفيذية بشغف وحماس، وليس التسوّل والترجي لأخذ هذه المسؤولية الوطنية. لكن هنا أيضاً نحترم هذه التسمية الشفافة ونحترم الرأي.
أما الـ 46 نائباً، أي ممثلو الشعب اللبناني المنتخبين، الذين لم يُسموا أحداً، أهذا يعني أنهم لا يريدون أن يتحمّلوا مسؤولياتهم؟ أهذا يعني أنهم لا يثقون بأحد لإدارة الأزمة الراهنة؟ أهذا يعني أنهم لا يريدون أي إدارة للبلاد، ومحاولة معالجة الأزمة الإقتصادية - الإجتماعية الكارثية، مراهنين على كسب الوقت مع أولوية واحدة وهي إنتخابات رئاسة الجمهورية؟
نذكّر ونشدد على أن التكليف ليس خياراً ولا ترفاً، لكنه واجب دستوري، وهو أيضاً واجب بالنسبة إلى الناخبين، الذين أعطوهم ثقتهم. مهما كان الأسم المطروح، علينا أن نحترمه، لكن الورقة البيضاء في هذا الجو تعني: إما الإستسلام الذي نرفضه في الشكل والمضمون، وإما غسل اليدين كبيلاطس ورفع المسؤولية عنهم.
إننا لا نؤمن بالتعطيل والتجميد والهروب من المسؤولية، لكننا من ذوي الحريات والديموقراطية والشجاعة والمثابرة. الهروب من الواجب طعنة للثقة التي مُنحت، وطمر الرأس في التراب كالنعامة، وغضّ الطرف عن مشاهدة شعبهم الذي يتسوّل للحصول على أدنى حاجاته الإنسانية.
إن المعادلة والتفسير واضحان لهذه الخيارات والمواقف: من جهة، إن أولوية بعض السياسيين والأحزاب هي متابعة الإنقسامات، والتجاذبات في الأشهر الأربعة المقبلة، تحضيراً لموعد انتخابات رئاسة الجمهورية في 31 تشرين الأول المقبل، وغض النظر عن الأزمة الإقتصادية الخانقة راهناً. ومن جهة ثانية، هناك شعب ينزف ويتسوّل ويتعذب، ولم يعد في مقدوره الإنتظار، ليس لأربعة أشهر وحسب، لكن حتى لـ 4 ساعات أو 4 دقائق.
هذا يعني أنه، حين يتلهّى السياسيون بتجاذباتهم السياسية التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه، ويتابعون هذه اللعبة الخطرة ببرودة أعصاب، هناك أطفال من دون حليب، وعائلات من دون طعام، ومرضى من دون أدوية، وسيارات من دون وقود، ومطاحن من دون قمح، ومودعون من دون أموالهم، ومؤسسات دولة من دون موظفين، وشعب بلا سلطة ولا إدارة.
في الخلاصة، إن مسرحية التكليف والتأليف هي متابعة السياسة الإستراتيجية المبرمجة والممنهجة لضرب كل مؤسسات الدولة وكل القطاعات الإنتاجية، وعنوانها الحقيقي هو عملية تدمير لِما تبقّى من الإقتصاد وترحيل لما تبقّى من شبابنا ورياديينا.