منذ إنطلاقة حركة 17 تشرين سادت في أوساط المجتمع اللبناني ثقافة تحميل أسباب الحال إلى الطبقة السياسية والأحزاب السياسية، وبالتالي تصويرهم كمسؤولين أولين عما آلت إليه الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في البلاد، إلى جانب نعت جمهور الأحزاب بالقطعان السائرين خلف زعاماتهم، وما دار حولها من نعوت وتشبيهات تندرج كلها تحت الصيغة الدعائية الإعلامية التي تشيح النظر عن المسببات الحقيقية. فتحميلهم وحدهم كل تلك المسؤوليات هو من باب الكذب المحض، حيث بات من غير المبرر الصمت الذي يضحي دليل قوي، حينما نسي أصحاب مقولات التغيير من "التوتاليتاريون الجدد" أن عناصر أساسية هي في صميم هذه المسببات من الرأسمال والرأسماليين وأصحاب الإستثمارات المكتنِزة للربحية التراكمية الذين لا يعترفون بدينٍ ولا يقفون عند زعيم ضاربين عرض الحائط الطوائفية والمذهبية ولغايات المصلحية وتراكم الثروات على حساب أي شيء آخر قد يقف في طريقهم. وهنا، ندرك إلى أي مدى أصبحت هذه الجماعة التغييرية مهووسة بالطبقة السياسية إلى درجة أنها نسيت المسببات والمخاوف الحقيقية التي تقلق الشعب اللبناني، بأن فقدت بالتالي تواصلها مع تلك المخاوف والأسباب.
وخير مثال ما تلعبه منظومة المصارف وشبكة الصيارفة من هدمٍ منظّم للإقتصاد اللبناني وإدخاله مسيرة التيه والضلال، فيما أن شبكة التجار الرأسماليين الذين خَبِروا وعلى مدى سنوات طوال أساليب الإحتكارية فعملوا على تطويرها، ومخازنهم شاهدة على أفعالهم، مما أوقع إقتصاد البلاد في مستنقعات التضخّم وتقلبات أسعار الضروريات.. والحجة في ذلك التغيّرات في تقلبات أسعار الصرف. ولا يجب أن ننسى أيضًا شبكة رأسماليو ومحتكرو الدواء وتجار المحروقات والمواد الغذائية والمسبّبين لإنعدام الأمن الصحي والإجتماعي.
ومن نافل القول، عدم الجزم من أن للطبقة الأوليغارشية وإتحاد قوة المال والسياسة من أذرعٍ للمآزق التي واجهها الإقتصاد كما والسياسة وذلك منذ الحرب الأهلية إلى يومنا هذا. كما ومن صحيح القول أن الحكومة اللبنانية ضعيفة، لكن ذلك لا يُسند في مسؤولية ضعفها إلى الزعامات السياسية ورؤساء الأحزاب. وإذا أُريد نَسَب ضعفها إلى هؤلاء، فمن الحق أن يُعتمد في تحديد المسؤوليات على القاعدة النسبية وعلى قدر مشاركة كل جهة منهم بالحكومات، وبالتالي النظر إلى درجة تأثيرهم على السياسات من إقتصادية ومالية وحتى مصلحية ذاتية. إنما يُردّ ذلك أيضًا - كسبب ونتيجة - إلى طبيعة النظام الإقتصادي الرأسمالي اللبناني وإعتماده صيغة لا تشبه أي إقتصادٍ رأسمالي مجاور.
وما يدعو الحديث عن ذلك، هو تشخيص ما أفرزته الإنتخابات النيابية الأخيرة من شريحة مجتمعية لا تتجاوز نسبتها 11 بالماية وصلت إلى بيت الشعب اللبناني تدّعي التغيير. ففيما لو نظرنا إلى مفاعيل هذه النتائج - بدون الحاجة إلى التدقيق فيها مليًا - لوقفنا على التعليلات الهامة التي أوصلت هؤلاء وأهمها إرتباطهم الإنتخابي بالأحزاب التي كانت المعلّل الأول في دخول هؤلاء قبة البرلمان. فلولا جمهور الأحزاب لكان وصولهم بشق الأنفاس.
فلا تبالغوا أيها التغييريون في ثورتكم التوتاليتارية المبتورة، كما تواضعوا في مغالاتكم بخطبكم العواطفية، وقرّوا بما تملكونه من شجاعة في مساندة بعض الأحزاب لكم، وإنزعوا من خطاباتكم شيطنة الإقتصاد وتنسيب تدهوره إلى السياسيين وزعماء الأحزاب كما تدّعون، واعلموا أنكم وفي حركتكم الإنتفاضية أنكم ساهمتم بنسبة لا بأس بها في هذا الإنهيار. فالآن أصبحتم جزء لا يتجزأ من الصيغة السياسية اللبنانية والتي على أساسها إنتُخبتم، وحيث البعض منكم يتناغم مع بعض الأحزاب والتيارات القائمة، فيما البعض الآخر شرع في تشكيل نواة أحزاب ومنكم من شكّل حزب قبل أن تطأ أقدامكم ساحة البرلمان. فضربتكم الإستباقية تعرّت من كل حدثٍ ومقولة.
إن نجاحكم يرتبط بما في جعبكم من مشروعات جريئة وحاسمة تتأبطونها لصالح الشعب اللبناني من توفير مصادر الطاقة وحوكمة توزيعها؛ ومن وضعكم أطر لدعم المنتجات المحلية من زراعية وصناعية.. بحيث يمكن للشعب اللبناني من الإستغناء وبالحد الأدنى عن المساعدات الخارجية؛ ومن حملكم رؤية تحدّ من الضغط السكاني وأولها ترشيد اللجوء المتواجد ومدى ضغوطاته على الحاجات المعيشية الضرورية من خبز وكهرباء وماء وطبابة.. ومن تحويل العملات الصعبة وتسرّبها من دائرة الإقتصاد المحلي إلى الخارج؛ ومن تضييق مساحة فرص العمل على اللبنانيين لصالح النازحين.. والأهم رؤيتكم في نقل الإقتصاد من الريعية إلى الإنتاجية.
عليكم بدل مقارعة القوى والأحزاب السياسية بأفكاركم التشكيكية، ان تصارحوا الشعب اللبناني وتصدقون معه. فمرحلة ما بعد 15 أيار تتطلب نهجًا وطريقة تفكير جديدة يقومان على الأمل وليس على الخوف، على الوقائع وليس على الأوهام، نهج وتفكير يعتمدان معالجة ما يقلق مستقبل الشباب اللبناني بالقول والفعل.