مما لا شك فيه أنّ حزب الله بحجمه الداخلي، وامتداداته الإقليمية عبر دوره العسكري في الجبهات القائمة في دول عربية عدة وصولاً إلى شبكاته المنتشرة في دول أفريقية وأخرى في أميركا اللاتينية، أصبح حملاً ثقيلاً على دولة هشّة ومنهارة مثل لبنان.
منذ تأسيس الحزب في العام 1982، وضِعت له أهداف واستراتيجية رُسمت من قِبل الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي ارتكزت على مبادئ دينية لكسب الجماهير، كون كَسوِ المشروع السياسي بالعباءة الدينية يشكّل الطريق الأسرع للسيطرة على مجتمعات العالم الثالث. وعلى الرغم من أنّ هذه الاستراتيجية خضعت لعمليات تعديل وتطوير تماشياً مع الأحداث والمستجدات التي رافقت مسيرة الحزب، إلّا أنّ الأهداف بقيت ثابتة. فحنكة ودهاء السياسة الإيرانية المتوارثة عن الامبراطورية الفارسية، المعروفة بقدرتها الكبرية على التخطيط البعيد المدى والصبر وإمكانية التأقلم، أوصلت الحزب إلى ما هو عليه اليوم.
هذا التطور قاد إلى تحوّل الحزب إلى قوة عسكرية وسياسية تشكّل جزءاً لا يتجزأ من المشروع التوسعي الإيراني الهادف إلى تحويل الجمهورية الإسلامية إلى قوة إقليمية وعالمية قادرة على فرض نفسها كدولة من دول القرار في منطقة الشرق الأوسط.
يقودنا ما ذكرناه أعلاه إلى استنتاجٍ أساسي، وهو أن هيكلية حزب الله، وعلّة وجوده، وسبب استمراريته، هو أولا و آخراً "السلاح".
قد يسمح هذا الحزب بطرح موضوع الاستراتيجية الدفاعية، وهذا ما صرح به مؤخّراً الأمين العام للحزب، السيّد نصر الله، الذي ترك نافذة صغيرة مفتوحة للحوار حول هذا الموضوع، إلّا أنّ مسألة نزع السلاح هي مسألة أخرى، لا بل مسألة مستحيلة، بالنسبة لهذا الحزب.
فنزع السلاح يعني بشكلٍ مباشر نهاية حزب الله عملياً. إذ ما فائدة الحزب لإيران إذا تحوّل إلى مجرد حزب سياسي داخلي؟ ألا يعني نزع السلاح توقّف تدفّق التمويل الإيراني المباشر للحزب؟ وتِبعاً لذلك، ألا يعني نزع السلاح والمال فقدان الشارع، أو ما يسمى بالبيئة الحاضنة للحزب؟ وكل ذلك يعني فقدان إيران إحدى أهم أوراقها الرابحة. لذلك فإنّ نزع سلاح الحزب هو بمثابة انتحار للحزب، ولا أعتقد أن الحزب هو في وارد الإقدام على الانتحار.
على القوى السياسية المعارِضة للحزب التعامل بواقعية. فالمواجهة المستميتة العبثية ستقودنا إلى الخراب والدمار، والدخول في أتون حرب أهلية جديدة. وبالمقابل، الاستسلام لسطوة الحزب تعني الاندثار وزوال لبنان الماضي والحاضر، رغم أنّ ما تبقى من لبنان الدولة ليس سوى القليل، لكن لا يجوز التفريط فيه رغم قلّته، لا بل واجبنا حمايته وإنقاذه والبناء عليه.
وفي هذا السياق لا بدّ من التنبيه إلى أنّ الاتكال الكلّي على الغرب هو اتّكال فاشل، كون الغرب في مكان آخر اليوم نظراً للحرب القائمة في أوكرانيا، ومدى تأثيرها المباشر على أوروبا وأميركا. والاتّكال على إسرائيل هو خيانة، وعقد الآمال على الأميركي سيُنتج الخيبات طالما يجلس على طاولة المفاوضات مع إيران. أمّا نظرية المراهنة على الانهيار الداخلي للنظام الإيراني فهي رهان خاسر في المدى المنظور، كون هذا النظام الذي نشأ في العام 1979، "بقبة باط" أوروبية - أميركية ما زال نظاماً فتياً ومتماسكاً على رغم الهزّات المتكرّرة التي تصيبه.
ما بين المواجهة المستميتة والشرسة على طريقة الكاميكاز (Kamikaze) والاستسلام، مساحة رمادية غير واضحة المعالم لناحية التخطيط وألأسلوب والنهج، كونها محكومة بالتغيّرات المتسارعة في لبنان والجوار. لكنّها، وعلى الرغم من غموضها تشكّل المساحة الوحيدة حالياً للتعاطي مع حزب الله بغية تحقيق بعض النتائج، أو المكاسب. هي مساحة تتسم بالمد والجزر وتحكمها الواقعية السياسية التي قد تفرض التراجعات المؤلمة في حين، والمواجهات القاسية في أحيان أخرى، وهي حتماً تتطلب خبرة وحنكة وعملانية سياسية قلّ من يتمتّع بها في وقتنا الحاضر. لكنّ أكثر ما تحتاج إليه هو وحدة الصف.
حزب الله، من جهة أخرى، يدرك تماماً أنّه أصبح عبئاً على البلد، كما أنّ حلفاء هذا الحزب يدركون تماماً مدى تأثير الحزب السلبي عليهم وعلى الدولة، وعلى مستقبل المواطن الذي يرزح تحت أزمة اقتصادية قاتلة. أضف إلى كل ذلك أنّ فقدان الأكثرية النيابية يجعل الحزب مرغماً على الدخول إلى مساحة المواجهة الرمادية. فالحزب حتماً لم، ولن، يتخلى عن أولوياته "الإلهية" المتمثلة بمصالح إيران العليا، إلّا أنّه يدرك جيّداً أنّ إمكانيّته على فرض شروطه في الداخل تقلصت ولو بنسبة محدودة. فلا مفرّ من تأليف حكومة فاعلة ومتناغمة ومنتجة ومقبولة عربياً ودولياً، كذلك لا بد مِن رئيس جمهورية جديد يشكّل صلة وصل ما بين مختلف الأطراف اللبنانية، وكذلك بين لبنان والخارج.
بناءً على كل ذلك، فانّ تشكيل جبهة موحّدة للاستفادة من الظروف الحالية، وبالتالي كبح جماح الحزب، أصبح أمراً ضرورياً وملحاً. وفي هذا السياق لا بدّ من توجيه رسالة واضحة إلى "نواب التغيير" للتخلي عن الأداء المسرحي، والاتّجاه إلى سياسة الواقع، والتعلّم من الخطوات الناقصة التي تمّ ارتكابها من قِبلهم في بداية مسيرتهم البرلمانية، والتوجّه إلى العقلانية والبراغماتية بغية تحقيق الأهداف المرجوّة في إنقاذ لبنان.
المسافة ما بين المواجهة والاستسلام تضيق في كل يوم، ولا بدّ من حسم الخيارات كي لا نرمي بأنفسنا في فم التنين.