لا شك أن السياسة تتطلب ذكاء ودهاء، وتتطلب أيضاً حنكة وحكمة. ولكن كل هذه الصفات، أو الأساليب السياسيّة، لا تلغي دور الأخلاق في السياسة. يستطيع اللاعبون السياسيون أن يمارسوا فهمهم لنظريّة "فن الممكن" قدر ما يشاؤون من دون أن يسوّغ لهم ذلك أن يُسقطوا أنفسهم وأوطانهم في القعر والحضيض.
هذا الحد الفاصل بين ممارسة السياسة بذكاء وبين ممارستها بقلة أخلاق يترك آثاراً بالغة في المستويات المختلفة من الأداء السياسي. ليست السياسة تجارة في "البازار" للبيع والشراء لأن في إتجاهاتها ومساراتها وقرارتها ما يؤثر على حياة الشعوب ومصائرها ومستقبل أجيالها. السياسة ممارسة يُراد من خلالها خدمة المواطن أولاً وأخيراً والارتقاء بواقعه الى ما يجسّد طموحاته في العيش الكريم والطمأنينة والسلام.
ليست مناسبة هذا الكلام، بطبيعة الحال، إعطاء الدروس لطلاب السنة الجامعيّة الأولى في إختصاص العلوم السياسيّة، إنما تذكير بعض القيّمين على إدارة شؤون البلاد بأن إعتمادهم منطق "البازار" والبيع والشراء، ولو على أشلاء اللبنانيين ومعاناتهم وقهرهم، بات يتطلب إدراكاً ووعياً من الرأي العام.
من الأمثلة الواضحة وغير الملتبسة ملف تكليف شخصيّة لرئاسة الحكومة المقبلة ومن ثم تأليف الحكومة. واضحٌ أن العهد، ومن خلفه تياره الحاكم، يستدرج العروض ويستدعي الشخصيّات التي يرغب بترشيحها ويجس نبضها في ملفاتٍ من المفترض مقاربتها في الحكومة الجديدة على الرغم من قصر عمرها الإفتراضي على إعتبار أن الاستحقاق الرئاسي بات على الأبواب.
ويصّب هذا الجهد التخريبي في إطار فرض الشروط قبل التكليف، مما يخالف مجدداً الأعراف والأصول الدستوريّة. فالتكليف يفترض أن يكون عمليّة "إقتراع" شبه أوتوماتيكيّة في القصر الجمهوري لا يملك فيها سيّد القصر الكثير من القدرة على المناورة السياسيّة لأنها، ببساطة، ملزمة بإجرائها وبنتائجها. دوره يبدأ بعد التكليف في إبداء الرأي مع الرئيس المكلف حيال تشكيلته المقترحة.
كم هو مشين أن يكون الرجل الأول في الجمهوريّة المؤتمن على حماية الدستور والسهر على تطبيقه، كما يرد في قسمه أمام المجلس النيابي عند إنتخابه، هو الرجل الأول الذي يتلاعب بمضامينه ويفسّر بنوده وفق مصالحه ومصالح تيّاره السياسي من دون أي إعتبار للمصلحة الوطنيّة اللبنانيّة العليا. ليست المرّة الأولى ولن تكون الأخيرة.
لقد بدأ تيار العهد وضع الشروط التعجيزيّة على الحكومة قبل تسمية رئيسها وقبل تشكيلها، ومنها مثلاً التعيينات "الإنتقاميّة"، إذا صح التعبير، بهدف الإقتصاص من كل الذين "سوّلت" لهم أنفسهم ألا يكونوا بمثابة "باش كاتب" عند رئيس التيار. ومن الشروط أيضاً التمسك بحقائب وزاريّة معيّنة ومنها وزارة الطاقة والمياه التي فشل فيها التيار فشلاً ذريعاً على مدى أكثر من عقد من الزمن وكبّد الخزينة اللبنانيّة خسائر تفوق الأربعين مليار دولار.
نهج "البازار" في الرئاسة والحكومة والترسيم البحري والعقوبات والتعيينات الإداريّة والماليّة والتشكيلات القضائيّة والديبلوماسيّة وصولاً إلى حراس الأحراش وسواها الكثير من الملفات، إنما يعكس عقماً سياسيّاً وعبثيّة مريضة. والشعب اللبناني يدفع الثمن!.