مع اقتراب تبلور "المطبخ" التشريعي للمجلس النيابي، قفز السؤال عن مصير مشاريع القوانين المحالة على البرلمان إلى الواجهة من جديد. فهل تُسيّل القوانين الاصلاحية بعدما أدخلتها الحسابات الشعبوية قبل 15 أيار في "ثلاجة" الانتظار، أم يستمر "تمييع" الملفات هرباً من المساءلة والمحاسبة، وتعمداً للانهيار؟!
في مقدمة مشاريع القوانين هذه، يأتي "مشروع القانون الرامي إلى تعديل بعض مواد القانون المتعلق بالسرية المصرفية"، الذي كانت قد أقرته الحكومة في جلسة 14 نيسان 2022. التعديلات المطلوب إدخالها على قانون السرية المصرفية - تاريخ 3 أيلول 1956، وعلى مواد محددة في قوانين "أصول المحاكمات الجزائية" و"النقد والتسليف"، و"الاجراءات الضريبية"، تعتبر جزءاً من الشروط المسبقة للاتفاق المبدأي بين لبنان وصندوق النقد الدولي على برنامج التصحيح الاقتصادي والمالي، المعروف باسم "التسهيل الائتماني الممدد". وذلك لكون التعديلات تضمن تعزيز الحوكمة والشفافية، وتسهّل المساءلة والملاحقة القضائية. ولا سيما في ما يتعلق بالتهرب الضريبي، وشبهات الفساد، وتبييض الاموال. بالتالي فان مثل هذه التعديلات كفيلة بازالة العوائق التي تحول دون تحقيق النمو المنشود في مرحلة التعافي.
العبرة في التطبيق
قانون تعديل السرية المصرفية على أهميته "يبقى ناقصاً، إذا لم يترافق مع المراسيم التطبيقية الضرورية التي تضمن حسن تنفيذه، حتى لو أقره مجلس النواب"، يقول النائب فؤاد مخزومي. وسيكون مثله مثل الكثير من القوانين الاصلاحية المقرة المتعلقة بمكافحة الفساد وملاحقة التهرب الضريبي والهيئات الناظمة... عصياً عن التنفيذ. نظراً لعدم وجود مصلحة للسلطة الحاكمة والمتحكمة بمصير اللبنانيين الانتقال إلى دولة القانون والمؤسسات، التي تعامل الجميع على قاعدة العدالة والمساواة. وعلى الرغم من إصرار النواب المؤمنين بالاصلاح على السير بهذه القوانين سريعاً، وعدم إيلاء أي جهد للوصول فيها إلى النهاية... فـ"نحن نتخوف من وضعها في الادراج والاقفال عليها بمفاتيح التعطيل الكثيرة"، يضيف مخزومي، و"لعلّ المثال الأوضح هو تمييع التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وعدم التوصل لغاية اللحظة إلى نتيجة مرضية فيه، رغم إقرارنا تعليق العمل بقانون السرية المصرفية منذ العام 2020". وبحسب مخزومي فان "ما شهدناه منذ نهاية العام 2019 من محاولات الالتفاف على الاصلاحات ومعارضتها بشتى الطرق والوسائل لا يبشّر بالخير. والتجربة تجعلنا قلقين على إمكانية تمرير القوانين الإصلاحية بأسوأ الاحوال، وعدم تنفيذها بأحسنها في حال النجاح باقرارها. وفي جميع الحالات قد تأتي قوانين تعديل السرية المصرفية و"الكابيتال كونترول" بعد فوات الأوان. حيث تشير مثلا شركة "موديز" في إحدى تقاريرها إلى تهريب أركان المنظومة نحو 9.5 مليارات دولار منذ تشرين 2019 ولغاية نهاية 2021". وبحسب مخزومي فانه "طالما هذه المنظومة التي انتقلت إلى تضييع حقوق الاجيال المقبلة من خلال الضغط لاستعمال أصول الدولة والتفريط بالثروات الطبيعية بعدما ضيعت ثروات الاجيال الحالية قائمة، طالما الامل والتعويل على أي القوانين الاصلاحية ضعيف مهما بلغت منافعها".
التعديلات الواجب إقرارها
أهمية قانون تعديل السرية المصرفية تتمثل بكونه يمنع المصارف من التذرع بالسرية، ويلزمها تقديم جميع المعلومات فور تلقيها طلباً من: السلطات القضائية التي تحقق في دعاوى جرائم الفساد، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ولجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، ومصرف لبنان والسلطة الضريبية المختصة. في حين أن القانون الاساسي ينص على عدم جواز تذرع المصارف بالسرية المصرفية فقط في حالة الطلبات التي توجّهها السلطة القضائية في دعاوى الاثراء غير المشروع، بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 38 تاريخ 18 شباط 1953، وقانون 14 نيسان 1954.
كما تتيح التعديلات المنصوص عنها في مشروع القانون الجديد:
- إلقاء الحجز على الأموال والموجودات المودعة لدى المصارف بقرار صادر عن هيئة التحقيق الخاصة، وفقاً لقانون مكافحة غسل الاموال وتمويل الارهاب، أو بحسب قرار صادر عن سلطة قضائية مختصة، أو حتى بقرار صادر عن أي سلطة أخرى تناط بها هذه الصلاحية.
- حظر فتح حسابات ودائع مرقّمة، وتأجير خزائن حديدية لزبائن لا يَعرف أصحابها غير مديري المصرف أو وكلائهم.
- تحويل جميع الحسابات المرقمة إلى حسابات عادية تطبق عليها جميع متطلبات مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب.
- السماح للنائب العام لدى محكمة التمييز ومعاونيه، وللمدعين العامين الاستئنافيين أن يطلبوا من المصارف تقديم معلومات تحميها السرية المصرفية لدعم التحقيق في الجرائم المالية التي يشرفون عليها ويلاحقونها.
- السماح للمؤسسة الوطنية لضمان الودائع المصرفية لدى ممارستها لمهامها المتعلقة بضمان الودائع المصرفية أن تطلب من المصارف تقديم المعلومات المحمية بالسرية المصرفية وفقاً لآلية تحدد بقرار يصدر عن مجلس إدارة المؤسسة.
وبما خص الشق الضريبي فان التعديلات تطلب من كل شخص طبيعي أو معنوي، بما في ذلك الادارات والنقابات الخاصة، أن تزود السلطة الضريبية بأي معلومات مطلوبة، بما في ذلك المعلومات المحمية بالسرية المصرفية. وذلك للقيام بواجباتها في عمليات التدقيق الضريبي، أو التدابير الرامية إلى تعزيز الامتثال الضريبي وكشف التهرب. ولا يجوز لأي كان التذرع بسر المهنة للحؤول دون تمكين موظفي الادارة الضريبية من مراجعة السجلات والمستندات المحاسبية التي تسمح بالتحقيق من مدى التزام المكلفين بموجباتهم الضريبية. كما يحق للادارة الضريبية أن تطلب البيانات خطياً من أي شخص لديه معلومات تفيد عملية التدقيق، بما فيها المعلومات المحمية بالسرية المصرفية.
المنظومة ستحمي نفسها
التخوف اليوم لا ينطلق من "عدم إقرار هذا القانون"، بحسب المحامي أديب طعمة، إنما من إيجاد المعنيين بتطبيقه ثغرات ينفذون منها لحماية أنفسهم ومصالحهم الموجودة في المصارف على وجه التحديد. فهذا القانون مفروض على لبنان من الخارج، ولا إمكانية لتقديم أي نوع من أنواع المساعدة إذا لم يجر إقراره. خصوصاً أن الاجراءات المعمول بها في لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي لم تعد موجودة في أي دولة من دول العالم. وهي لا تساعد في المبدأ على استقطاب رؤوس الاموال بقدر حمايتها للفاسدين والتشجيع على التهرب من المساءلة والملاحقة القانونية". أما حيلة التذرع بفقدان لبنان لدوره في استقطاب الودائع في حال وقف العمل بالسرية المصرفية فلم تعد تنطلي على أحد. إذ إن هذه السرية كانت أصل الشرور التي ضيعت عشرات مليارات الدولارات من أموال المودعين. والمراهنة على حصول لبنان في المستقبل على الودائع تنطلق من الحوكمة الرشيدة والشفافية والقضاء النزيه، وليس من السرية المصرفية.
النافذون ممن يخبئون أموالهم في القطاع المصرفي سيبتدعون استثناءات تتيح لهم إخراجها من بوابة الصناديق السيادية والمناداة بالتصرف بأصول الدولة لتهريبها وعدم ظهورها. ومن هنا نرى "ارتفاع منسوب الضغط للتصرف باملاك الدولة كمدخل وحيد للانقاذ"، بحسب طعمة، "فيما هم يريدون في الحقيقة شراءها بالثمن الزهيد بالاموال المهربة خوفاً من الملاحقة وانكشاف أمرهم مع بدء النفيذ".