زار سماحة شيخ العقل لطائفة الموّحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى خلوات البياضة الزاهرة في حاصبيا مساء امس وهي الزيارة الاولى له بعد توليه مقام مشيخة العقل، فأقيم لسماحته استقبال روحي واجتماعي حاشد ضم مشايخ البياضة والفاعليات الروحية والاجتماعية والاهلية في حاصبيا ومنطقتها، كان في مقدمهم المشايخ: فندي شجاع وسليمان شجاع وابو سليمان غالب الشوفي وابو مهدي سلمان دربية وابو هاني ماجد ابو سعد، وابو يوسف حسين ذياب، الى جانب رئيس بلدية حاصبيا لبيب الحمرا ووكيل داخلية المنطقة في الحزب التقدمي الاشتراكي سامر الكاخي وفاعليات عدة.
ورافق سماحته وفد كبير من مشايخ منطقة الجبل ضم المشايخ: ابو زين الدين حسن غنّام، ابو حسن عادل النمر، ابو شوقي مهنا البتديني، ابو نعيم محمد حلاوي، ابو هلال ماجد سري الدين، ابو اكرم خطار كمال الدين، ابو سليمان وجيه زين الدين، ابو أجود خطار منذر، وقاضي المذهب الدرزي الشيخ غاندي مكارم ورئيس مؤسسة العرفان التوحيدية الشيخ نزيه رافع، وعدد من رؤساء لجان وأعضاء المجلس المذهبي ومستشاري شيخ العقل.
وكان قد توقَّف عند مدخل حاصبيا أمام منزل الشيخ أبو حسن سليمان شجاع حيث تجمَّع عددٌ من المشايخ والأهالي للترحيب، ولدى وصول سماحة الشيخ الى حرم الخلوات كانت كلمة له في المشايخ المستقبلين.
النَصُّ الكامل لكلمة سماحة الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِ المرسلينَ وعلى آله وصحبه الطيبين وعلى أنبياء الله الطاهرين،
حضرةَ المشايخ الأفاضل، إخواني شيوخَ البيَّاضة الأجلَّاء، أيُّها الأحبَّةُ والأوفياء،
نزورُ المحلَّ الأزهرَ الشريفَ اليومَ لنتوضّأَ ونُصلِّيَ معاً ونتباركَ بوجوهِ أخوةٍ لنا في العقيدة والمسلك والمجتمع، ولنلتقيَ وإيَّاكم في رحابِ التقوى الجامعةِ للزمان والمكان، على هذه التلَّةِ الرائعةِ المُطِلَّةِ على لبنانَ وفِلَسطين وسوريا، ولنجلسَ معاً على بِساط التواضعِ في مجلسِ خلواتِ البيَّاضةِ العابق بشذا الحكمة والتوحيد، بِساطِ الزهدِ والمحبة والأُخوَّة التوحيدية، نستذكرُ التاريخَ ونعيشُ الحاضرَ ونتطلَّعُ إلى الصُّبحِ القادِم حتماً من بعيد.
نزورُ البيَّاضةَ لنتلمَّسَ طهرَ عباءات السلف الصالح وعمائمِهم البيضاءِ النقيَّة، ولنُنعشَ الروحَ بطِيبِ أنفاسِهم الروحانيةِ، ولنُعطِّرَ قلوبَنا وعقولَنا بسيَرِهم العَطرة، أولئكَ الشيوخِ السادةِ الأتقياءِ الأعيان، المُحصَّنينَ حقَّاً بحُسنِ الولاء وصحةِ الإيمان… اللائذين دوماً بحمى الواحدِ الجبَّار، والمُناجين ربَّهم في الليالي والأسحار، والمتلذِّذين صبحَ مساءٍ بأسرارِ الحكمة ومعاني الآياتِ والأسفار… أولئكَ النخبةِ من أهلِ العلم والعمل والجهاد، المنشغلين بذكرِ الله عن أنفسِهم والعِباد، التاركينَ لمعانَ الفضةِ والذهبِ والمذاهب، وبريقَ الدنيا والمناصبِ والمكاسب… المتَّقينَ المرتقينَ، وأوَّلُ خصالِهم الصدق، الهاربينَ من جَورِ أنفسِهم إلى رحاب الحقيقةِ وعدالة الحقّ… العارفين بالله الذي لا مولىً إلّاه، والمُدركينَ أنّ بالتوحيد تُعرفُ الأشياءُ لا بسواه، وبه تتحقَّق الإنسانيةُ ويَبلغُ المرءُ عُلاه.
إخواني الشيوخَ الأفاضلَ، أبناءَنا الأحبَّاء،
في البيَّاضةِ يجتمعُ أهلُ الحقِّ والمعروفِ والعِرفان، يجتمعونَ على عقيدةٍ توحيدية، وعلى فضائلَ ومكارمَ أخلاقية… في البيَّاضةِ تتطهَّرُ النفوسُ وتصفو القلوبُ وتتجوهرُ العقول… كيف لا؟ والحكمةُ عندنا غايةُ الكتاب وغذاءُ أولي الألباب، بها تُزالُ الضغائنُ والأحقاد، وبدرسِها تُفَكُّ القيودُ والأصفاد… بالسير على هَديِها تُنالُ الدرجات، وبالعيشِ في كنفِها تحلو المسافرةُ إلى أبعد الغايات.
في البيَّاضةِ كم من كتابٍ يُقرَأ! وكم من دورٍ يَجمع! وكم من سيرةٍ تُتلى! وكم من مُريدٍ وكم من مفيد!! عشراتٌ بل مئاتٌ بل الآلافُ في هذه المدرسة الجامعةِ تعلَّموا وعلَّموا، وتربَّوا وربَّوا، ودرَّسوا ودرسوا، وسهروا وجاهدوا، وعلى حفظ بعضِهم تعاهدوا… سلكوا السبيلَ الأرقى وتعلَّقوا بما هو أجلُّ وأبقى.
في البيَّاضة رجالٌ مرُّوا من هنا في طريقِهم إلى الجنَّة، وما زلنا بسيَرِهم نتذاكرُ ونتغنّى… ابتعدوا عنِ أوهامِ الدنيا وأدركوا أنَّ كلَّ ما عليها فانٍ، وأنَّ كلَّ مَن تعلَّق بها مُعانٍ، بركاتُهم شملتِ الأمصار، ومحبتُهم تجاوزتِ الأقطار… بهمَّتِهم توحَّدتِ الهِمَّة، وبسرِّ توحيدِهم سَلِمتِ الأُمّة، وهمُ الذين ما نطقوا إلَّا لطفاً، وما نصحوا إلَّا عطفاً… لم يُغلِقوا الأبواب، ولم يردُّوا منِ استجاب… ما سلَّموا الجواهرَ إلَّا للمستحقّ، وما وزنوا الأمورَ إلَّا بميزان الحقّ… فلا حَجبوا الحكمةَ عن أهلِ الحكمة، ولا منعوا النعمةَ عن طالبِ النعمة، وما بخلوا بالحِلمِ والمال، ولا تعاملوا إلَّا بالرزقِ الحلال.
مشايخَنا الأتقيّاء، إخوانَنا الأكارم
أولئك هم شيوخُ البيَّاضةِ القدوةُ الأطهار الذين تميّزوا بنقاء مَسلكِهم وتقواهم وبانقطاعِهم إلى عبادته تعالى والتعمُّق في توحيده، والإقبال على طاعته، والارتقاء بمسلكهم العرفانيِّ علماً ومعرفة وحكمة، “أولئك هم الثِقاتُ الموثوقُ بهم، في سَكَناتهم وحركاتهم، في كلامهم وخواطرهم، في طُرُقِهم الظاهرة والباطنة والتي كثيرٌ ما يتبدّى منها للعَيان، والأكثرُ ما يُستبطَنُ لأصحاب البصيرةِ والنّيَّة الطيّبة”، أولئك هم الذين انكبُّوا على الكتاب العزيز حفظاً ودرساً وفَهماً لمعانيه وعملاً بأوامره ونواهيه، فقرنوا العلمَ بالعمل “وتخصّلوا” بخصال التوحيد، سدقاً باللسان وعملاً بالأركان.
شيوخُ البيَّاضةِ الأجلَّاءُ، أشرقَ على بصائرهم نورُ التوحيد فعرفوا الحقيقة، وصَقلتِ العقيدةُ نفوسَهم فتألّقتْ سجاياهم خُلُقاً ونُبلاً، تعلَّقوا بأوثق العُرى فاستبان لهم الدالُّ والدليلُ والمدلول، تجلَّى الحقُّ لهم فكانوا الأصفياءَ الأتقياءَ الأخفياءَ المُخبِتين، ابتعدوا عن الدنيا وما بهم كسل، واختلَوا لباريهم وجاهدوا حقَّ الجهاد في خير العمل، فكانوا سادةً وأسياداً بلا جاهٍ ولا قوّة، ولا مالٍ ولا ثروة، خشعوا للحقّ فخضعَ لهمُ العديد وأُعجبَ بهم القريب والبعيد، وصفَ سمْتَهم أحدُ الكتَّابِ فقال: “لا يُنطَقُ الكَلِمُ إلَّا بمقدار ولا يُسمَعُ الصوتُ إلَّا همساً”، هؤلاءِ همُ الأطهارُ سُكَّانُ هذا الحرَمِ المأنوس، وها هي البيَّاضةُ الزاهرةُ التي نزورُ اليومَ وما أدراكم ما البيَّاضةُ التي نزور!
البيَّاضةُ الاسمُ مكانٌ مُطِلٌّ وأُفُقٌ يتجاوزُ الحدود، والبيَّاضةُ المُسمَّى خلواتٌ وغرفٌ بسيطةُ البناءِ والأثاث، تُوحي للعاقل أنّ لا حاجةَ للإنسان بأكثرَ من ذلك، أمَّا البيَّاضةُ المعنى فهي تراثُ مئاتٍ من السنين طُهراً وسَلكاً وعبادة، هي عبَقُ تاريخٍ من التوحيد الحقّ لسلفٍ صالحٍ تمسّكَ بأهداب الفضيلةِ والإخلاص طاعةً وعبادةً وإنكاراً للذات.
على تلك الأُسسِ التوحيدية والسِّماتِ المسلكية بُنيتِ العلاقةُ الوثيقةُ بين البيّاضة والمجتمع، وترسَّخَ في النفوس احترامُ هذا المكانِ بما يُمثّل، وأصبح شيوخُها مرجِعاً للناس في الأمور الهامّة، فـ “”البيّاضةُ؛ “بيّاضةُ القلوب” مُشتقٌّ اسمُها من لونِ عمائمِ قاطنيها، وهكذا هم مشايخُها الأنقياءُ بتقواهم واستقامتِهم وحكمتِهم… حُكمُهم نافذٌ لثقة الناس بهم ولاستنادِهم إلى الحقّ وبُعدِهم عن الهوى”، ولأنّ حياتَهم نموذجٌ حيٌّ لعيشِ الزهد والبساطةِ الروحانية التي تُذكّرُ بحياة أهلِ العرفانِ المتصوّفينَ الأوائلِ كسلمانَ الفارسي وأبي ذرّ وعمّار وسواهم ممّن عُرِفوا بأهل “الصَفّة”.
لذلك، فالبيَّاضةُ تستوي على عرشِ القلوب، مُستقلَّةٌ تماماً بإدارة أوقافِها، مُطمئنّةٌ لروحانيةِ نهجِها، شيوخُها أطهرُ الشيوخ، ورجالُها أوثقُ الرجال. من هؤلاء الشيوخِ الرجالِ من برز بعلمه وقوةِ عقله وغزارةِ معرفته، ومنهم من تميّز بورعه وزهده، ومنهم من برز بشجاعته وإقدامه، ومنهم من تفوَّق بشوقه وخوفه ورجائه. هؤلاءِ الشيوخُ الثقاتُ همُ البارزون في المجتمع وهمُ المُبرِّزون بالعلم والفضل والمسلك الدقيق، ومشايخُ البيّاضة الأتقياءُ في طليعتِهم، ومَن أسَّس لمداميك التقوى في البيَّاضةِ في مُقدّمتِهم؛ وأوَّلُهم المرحوم الشيخ سيف الدين شعيب ثم المرحوم الشيخ جمال الدين الحمرا، ثمَّ أُولئك الأعيانُ الذين أكرَمنا الزمانُ فتعرَّفنا على بعضِهم في بداياتِنا، كالمرحوم الشيخ أبو علي مهنّا حسان والمرحوم الشيخ أبو فندي جمال الدين شجاع والمرحوم الشيخ أبو حسن علم الدين ذياب والمرحوم الشيخ أبو حسين ابراهيم أبو حمدان والمرحوم الشيخ ابو قاسم محمد رعد، وغيرِهم ممّن أضاؤوا سفوحَ وادي التيم أُنساً وتقوى، كالمرحوم الشيخ أبو علي يوسف أبو ابراهيم وسواه من المشايخِ السادة الأنجاب.
شيوخُنا القدوةُ ممَّن تربَّينا على سيَرِهم وممَّن عاصرنا وواكبنا مسيرتَهم هم أشبهُ بحلَقاتٍ مترابطة في سلسلة المشايخ الأعيان، سلسلةِ التوحيد التي تتواصلُ اليومَ معَ شيوخِ العصر الأتقياء والذين كانوا دائماً صمَّامَ الأمانِ لمجتمعِنا التوحيدي وحافظي العقيدةِ وحرَّاسَ القِيَم، والذين ما تأخَّروا يوماً عن الوقوفِ إلى جانبِ الطائفة وقياداتِها الحكيمة ورجالِها البواسل للدفاع عن الوجود والحضور الوطني منذ القِدَم وحتى اليوم، تحت شعار وحدة الطائفة والكرامة الواحدة وجمع الشمل والمحافظة على الفرض والأرض والعِرض. وشيوخُنا الأعيانُ اليومَ جديرون بحمل هذه الأمانة، ونحن وإيَّاهم في مهمَّةٍ مشترَكة، بقلوبٍ قريبة نابضة بالأخوَّة، كما يقول شيخُنا الشيخ أبو يوسف أمين الصايغ، ولأن الطائفة لا تُترَك ولها حقٌّ علينا، كما يقول شيخُنا الشيخ أبو صالح محمد العنداري، ولأنَّ الثقةَ كبيرةٌ بالراعي الصالح الذي لا يتخلَّى عن رعيَّتِه، كما يردِّدُ دائماً إخواني الشيوخُ الأتقياء الذين نتباركُ بدعائهم وبركاتِهم والذين هم أوتادُ هذه الأرض وهذه الجزيرة الممتدة من لبنان إلى سوريا وفلسطين والأردن، والذين غمرونا بمحبتهم ومؤازرتِهم، ولهم منَّا أخلصُ التحيات والأمنيات والتقدير، سائلين اللهَ عزَّ وجَلَّ أن يصونَنا ويصونَهم وأن يصونَ مجتمعاتِنا من كلِّ فُرقةٍ وتفكُّكٍ ومن أيِّ اعتداءٍ وظلمٍ ومكروه.
إخواني المشايخَ الأفاضل، أهلَنا في حاصبيا والجوار
في البيَّاضةِ نلتقي وعلى أكتافِ كلٍّ منَّا واجبٌ ومسؤولية، وكلٌّ على قدرِ موقعِه ومهمَّتِه وقدرتِه؛ واجبُ تربية النفس أوّلاً، بالتوبة والاستغفار والعزم والإصرار وبحسن التدبير والاختيار، وواجبُ خدمةِ المجتمعِ التي نحن بها مُطالَبون وعليها لَمؤتَمنون، وواجبُ إعزازِ الدين وأهلِه “الأجاويد” أربابِ المسلك التوحيديِّ الشريف، وواجبُ جمعِ الشمل وإعلاءِ كلمة الحقِّ. هذه هي رسالةُ مشايخِنا الثِّقاتِ الذين بهم نقتدي وبنورِ إيمانِهم نَهتدي، وهي رسالةُ “البيَّاضة” وشيوخُها الأطهار، رسالةُ الجمع لا الفُرقة، وفي الجَمع إنقاذٌ من “سَقطِ الهلاك”، رسالةُ الأخوَّة التوحيدية التي هي فوقَ الاختلافات والآراءِ المتباينة والتجاذبات السياسية والعائلية، رسالةُ الصفاء والنقاء والرَّجاء والأمل بأن نتعالى دوماً على الخصومات وأن نتلاقى دائماً على العهد والميثاق.
تلك الرسالةُ نحمِلُها من البيَّاضة وإليها، نتعلَّمُ ونعلِّم، نستفيدُ ونرجو أن نُفيد، ولنا ملءُ الثقةِ بمشايخِها المتحدِّرين من السلف الصالحِ أن يحافظوا على هذا الإرث التوحيديِّ الشريف، ولنا في الأخوةِ المشايخ القيِّمين على نهضتِها الأملُ بإبقاء البيَّاضةَ منارةَ علمٍ وجهاد، شاكراً غِيرةَ الجميعِ واندفاعَهم وكرمَهم، وراجياً من أحبّتِنا الشبابِ الالتفافَ حولَ شيوخِهم الكبارِ والاقتداءَ بآبائهم وأجدادِهم الأبرار، وآملاً التفاهمَ والتلاقي على خدمةِ هذا المحلِّ الأزهرِ الشريف ليبقى منارةَ أهلِ الفضلِ والتوحيد، طالباً من مشايخِنا الأجلَّاءِ الدعاءَ وصفاءَ الخاطرِ، وداعياً أنفسَنا وإخوانَنا للثبات على نهج البيَّاضةِ الأشرف، نهجِ التوحيد والمعروف الذي عليه نشأنا، وبه نحن مُتمسِّكون، ولن نبدِّلَ تبديلا.
أثابكم اللهُ وحفِظكم بكنَفِه وصونِه، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.
بعد ذلك كان لقاء موّسع في باحة البياضة وكلمات ترحيبية ثم سهرة روحية جامعة، وزيارة داخل حرم الخلوات إلى خلوة المرحوم الشيخ أبو فندي جمال الدين شجاع وخلوة المرحوم الشيخ أبو علي مهنَّا حسَّان.