نقاطٌ على الحروف في ذكرى التحرير

26 أيار 2022 16:40:04

 بادىء ذي بدء، ليس من منصفٍ ينكر دور حزب الله في تحرير الجنوب من العدو الإسرائيلي. ولكن الذي بات مرفوضاً فيما بعد استنسابُ الحزب لنفسه شرعيةَ التحرير، ليتسلّل منها للقبض على قرار الحرب والسلم، والأصح القول حالة "اللا- حرب واللا- سلم" التي نعيشها، والتي يبدو أنها مطلوبة لتمرير أجندات بعيدة، أقربها كان الإمساك بعنق بيئة الحزب، وهذا ما حدث فعلاً. وأبعدها ربطُ لبنان بالأجندة الإيرانية، كما هو جارٍ الآن، شيءٌ يذكّرنا بالقبضة السوفييتية  على دول أوروبا الشرقية، وجرى ذلك يومها تحت مقولة "لولا الجيش الأحمر لكنتم عبيداً عند النازية!" وبذات الكيفية يردّدها حزب اللّه أمام جمهوره، ويرميها في وجه أي معترضٍ أو ساخطٍ من ممارساته، وقد باتوا كُثراً، مع أنّ الفارق كبير بين الحالتين. فالجيش الأحمر يومذاك دخل بلداناً لا حول لها ولا قوة أمام الآلة العسكرية النازية التي احتلتها، إنّما مقاومة حزب الله جاءت إلى أرضٍ تعجّ بالمقاومين الذين سبقوه في مقارعة  جيش الاحتلال على امتداد الوطن، وقد انتظمت صفوفهم آنذاك في  "جبهة المقاومة اللبنانية (جمّول)"، والتي ضمّت طيفاً من الأحزاب القومية واليسارية. 

هذه المقاومة التي يأتون على ذكرها من باب الاستحياء، ويقفزون فوق إنجازاتها، ليستقر في ذهن الصاعد من الأجيال المشهد الأخير فقط، فيما حرب التحرير بدأت  قبل 18 عاماً، وتحديداً في 16 أيلول/ سبتمبر، 1982، يوم كتب جورج حاوي ومحسن دلّول البيان الأول للمقاومة على ضوء شمعة في منزل كمال جنبلاط في بيروت. كان ليلاً دامساً من اليأس آنذاك، حيث تساقطت الخطوط العسكرية بسرعة، وانسحب من انسحب، وهرب من هرب، لتكون الحصيلة سقوط بيروت، فغدت أول عاصمةٍ عربية يطأها جيش إسرائيل. لكن اليأس لم يطُل يومها حين مزّقته طلقات المقاومين اللبنانيين، لتبدأ مسيرة التحرير، فكان انسحاب إسرائيل من بيروت تحت ضرباتها، ثمّ من صيدا بعد 985 يوماً من القتال، وهكذا تتالت الهزائم الإسرائيلية إلى ما بعد الليطاني انسحاباُ.
  

جاء الدخول الإيراني على خط المقاومة الوطنية أواخر عام 1982، خالقاً نوعاً من بيئةٍ طائفية في الجنوب لتستأثر إيران عبرها بالمكان. وقد جرى ذلك في مندرجات التحالف السوري- الإيراني، والذي تبلور مع الحرب العراقية- الإيرانية. وفي هذه الظروف كان على المقاومة الوطنية أن تشق طريقها بين الألغام. فمثلاً تعرّضت للتضييق عليها في البقاع، حيث أصرّت سوريا على السيطرة عليها بداعي "ضبط العمل المقاوم". وعليه جاء اغتيال أحد أبرز  قادة المقاومة، محمد سليم، عميد الدفاع في الحزب السوري القومي الاجتماعي. وفي الجنوب تعرّضت الكوادر اليسارية من قادة المقاومة الوطنية للتصفية، وغدت مجموعاتها محاصرةً بين نار العدو من أمامها،  وطعنات "الصديق!!" من الظهر، أو ممن يُفترض بأنّه "صديق!" فكان أشدّ ما ينطبق عليها قول المتنبي:

وسوى الروم خلف ظهرك رومُ،
فعلى أي جانبيك تميلُ...

معاناة لا نريد نكأ جراحاتها في هذه المناسبة، ولكن ممّا يجب أن تعرفه الأجيال التي لم تعِش تلك الحقبة أنّ أحزاب المقاومة الوطنية اللبنانية أوقفت عملياتها مكرهةً مضطرة. وممّا يجب أن نلفت إليه أيضاً أنّ "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" قاتلت في أصعب الظروف من شحّ الإمداد، بل أنّ استمرارها بتأثيرٍ عالٍ كان غير ممكنٍ لولا الحزب التقدمي الإشتراكي الذي فتح طريق  البقاع إلى بيروت ومنها إلى الجنوب، ليصبح الجبل عمق المقاومة التكتي وأحياناً الاستراتيجي، الأمر الذي يجحده البعض، أو يتعمّدون التعتيم عليه!

   انكفأت الأحزاب الوطنية، ومن ثمّ حركة "أمل" مفسحين المجال لحزب اللّه الذي كان قد بدأ كمجموعات من حزب الدعوة والحرس الثوري. وهنا لا مجال للمقارنة بين ما توفّر له من إمكانيات، وبين ما تيسّر للمقاومة الوطنية اللبنانية، يكفي فقط أن نعرف بأنّ مقاتلي الأخيرة كانوا متطوعين بلا مقابل مادي سوى ما يسدّ حاجة بطونهم مما يتيسر، فيما مقاتلو الحزب جنودٌ نظاميّون برواتب مجزية، ونظام لوجستي محكم، وتدريبٍ عسكري تحت إشرافٍ مباشر للحرس الثوري الإيراني. 
  
  ربّما يفسر لنا الحاضر لماذا جرى ضرب أحزاب المقاومة الوطنية اللبنانية، إذ لو كان المطلوب فقط مقاومة الاحتلال لما وجب تحجيم "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" آنذاك، لكنّ كان الأمر أبعد من مقاومة، إذ كان المخطّط، ومنذ ذلك الحين، أن يكون حزب الله وفق مندرجات "الحلف السوري- الإيراني"،  المنصة السياسية والعسكرية لنفوذ طهران شرق المتوسط. وما سبق ليس استنتاجاً شخصياً، فقد أفصح عنه صراحة أكثر من قائد في الحرس الثوري الإيراني فيما بعد. وعليه غدت موضوعة المقاومة والتحرير فيما بعد "مسمار جحا" لا أكثر، مما استدعى السخرية بالقول:  إذا تمّ التحرير حتى صار له عيداً، فلماذا السلاح؟، وإذا لم يكتمل التحرير، فلماذا العيد؟