انتهت الانتخابات النيابية اللبنانية وبرزت مع نهايتها معالم مرحلة جديدة فيها من المصاعب ما يكفي لإشغال النواب الجدد في الهموم الوطنية والمعيشية الكبيرة، وأمامهم تحدي استعادة السيادة، وتحدي وقف الانهيار الذي أصاب مالية البلاد واقتصاده، وهؤلاء ملزمون بالتعايش مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لمدة تزيد على خمسة أشهر وسيتحضرون لمصاعب عملية انتخاب رئيس جديد لأنها تحتاج لنصاب ثلثي الأعضاء غير المتوافرة لدى أي طرف بمفرده.
ومن المؤكد أن الناخب اللبناني حاسب الذين تسببوا بإفقاره وبتخريب اقتصاده الحر، وأوصل رسالة لا تحتاج الى تفسير، حيث إن هذا الناخب يرفض كل تقويض لنظامه الديموقراطي، ويتمسك بالعلاقات الأخوية المتميزة مع أشقائه العرب، ولا يريد فرض أي عزلة عن العالم، وأجهض مقولة إن الانتخابات لا تقدم ولا تؤخر في تغيير الوضع القائم.
ولا يغير من هذه الوقائع احتفاظ حزب الله وحلفائه بعدد وازن من المقاعد النيابية، لأن خسارة سياسية واضحة أصابته مباشرة ومواربة من خلال هزيمة عدد من حلفائه، وفي فشله في إلغاء قوى سيادية رئيسية لا يرتاح للتعامل معها، وهي ترفض الإبقاء على وجود السلاح غير الشرعي كما ترفض ربط لبنان بمحور الممانعة.
القوى السيادية انتصرت بصرف النظر عن عدد المقاعد التي حصلت عليها، وبعض مجموعات الحراك التي تتمتع بمصداقية أثبتت جدارتها الشعبية، كما انهارت مصداقية الذين حاولوا استغلال «الثورة» لغايات شخصية أو انتقامية.
لكن انتصار الفريقين الآنفي الذكر، لا يعني بأي حال من الأحوال أنهما قادران على بلورة مشروع موحد لاستعادة السيادة، ولتوفير مناخ يساعد على بدء التعافي الاقتصادي الذي تحتاج اليه البلاد، لأن الفريقين الفائزين يتعارضان حول كيفية معالجة المعظلات المطروحة، وكل منهما يتحمل مسؤولية عن هذا الاختلاف، لأن القوى السيادية ترى أن أي تغيير لا يمكن أن يحصل الا من خلال المشاركة الفاعلة في مؤسسات الدولة، بينما يرفض فريق «الحراك» التعاون مع قوى شاركت في الحكم في السابق، وهو يكيل الاتهامات بحق كل الطبقة السياسية القائمة برمتها.
القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وقوى مناطقية ووطنية أخرى حافظت على مكانتها، او أنها تقدمت بشكل واضح، ومجموعات «التغيير» دخلت الى معترك السياسة الرسمية بفريق متكامل، لكنها ترتبط بمقيدات خارجية ساعدتها في فرض حضورها الإعلامي والتمويلي، وليس من السهل عليها التحرر من هذه المقيدات والانغماس في مشروع إنقاذي واقعي يحتاج الى تعاضد والى تواصل مع القوى الأخرى، لأن النظام الطائفي اللبناني يفرض إحلال النمطية الميثاقية في أي تغييرات جوهرية على طبيعة النظام القائم، والقوى المناهضة لهذين الفريقين تملك فيتو ميثاقي، لأنها تمثل المكون الشيعي، وهذا المكون أساسي في الحياة اللبنانية، ولا يمكن تجاهله في أي تسوية قد تحصل.
وفي التقييم الأولي لما تظهر من نتائج الانتخابات، يتبين أن القانون الحالي المعتمد في العملية الانتخابية، لا يجوز أن يستمر، لأنه سيؤدي مع الوقت الى إفساد الحياة السياسية الوطنية برمتها، وسيفاقم من الصراع الطائفي والمذهبي، وقد أثبتت التجارب أنه لا يخدم صحة التمثيل، خصوصا عند المسيحيين، لأن حزب الله استطاع أن يفرض عددا من النواب لصالح حلفائه، لا يتمتعون بحيثية مسيحية كبيرة، وجير هؤلاء لصالح حلفائه في التيار الوطني الحر.
والعملية الديموقراطية اللبنانية مهددة بكاملها مستقبلا من خلال هذا القانون، لأنه يسمح بالتدخلات الخارجية، من قبل محاور سياسية ومن خلال سفارات دول مهتمة ولها مصالح في لبنان، كما أنه فتح الباب على مصراعيه أمام الرشاوى المالية وأفسد الحياة الحزبية وربط ولاء غالبية المنتسبين الى هذه الأحزاب بمصالح نفعية، بعيدا عن الاعتبارات العقائدية، مما يحتم ضرورة انتاج قانون جديد للأحزاب يمنع عليها تلقي الأموال والسلاح من الخارج.