تُحيطُ بالانتخابات النيابية اللبنانية أجواء مشدودة، حيث يعيش البلد أسوأ أيامه منذ تأسيس الكيان قبل أكثر من مئة عام، ويعاني شعبه من عوَزٍ يُشبه ما حصل في متصرفية جبل لبنان بُعَيد الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في سنة 1914. وما يزيد من طين المأساة بلَّة، حصول عمليات الاقتراع وفق قانون انتخابي غريب عجيب، فاقمَ الصراع الطائفي، وشوّه بعض مزايا الديمقراطية، وفتح الباب على مصراعيه أمام التدخلات الخارجية، وأمام عمليات الرشوة، وهو ما يجعل من الحليف والصديق خصماً ومنافساً في آنٍ واحد.
القانون الانتخابي رقم 44/2017 يعتمد على التمثيل النسبي في دائرة مصغرة، وهو ما يتعارض مع مبدأ النظام النسبي الذي غالباً ما يحصل على أساس الدوائر الكبرى. ويستند إلى قواعد النظام الأكثري في جانب منه، وليس على ترتيب أسماء المرشحين في القائمة الواحدة، لأنه يُلزم المرشحين بالحصول على أكثرية من الأصوات التفضيلية الخاصة داخل القائمة التي ينتمون اليها، بصرف النظر عن ترتيبهم فيها، وهذا الأمر خلق تنافس أو عداوة داخل اللائحة الواحدة. وفوق كل ذلك فإن القانون يوزع المقاعد النيابية على أساس طائفي ومذهبي، بحيث يمكن أن يفوز نائب ببعض مئات من الأصوات، بينما يخسر زميل له في ذات اللائحة إذا كان من طائفة أخرى، ولو حصل على آلاف الأصوات زيادة عنه، لأن التوزيع الطائفي للمقاعد يحرمه من الفوز إذا نفدت المقاعد المخصصة للطائفة، أو إذا حصل زملاؤه على المقاعد التي نالتها اللائحة بعد احتساب عدد الحواصل وكسور الفواصل قياساً لعدد المقترعين في الدائرة.
ولا تتوقف "مهازل" عرس الديمقراطية اللبنانية عند هذا الحد، بل تتمدَّد إلى حلقات أُخرى أشد تشويهاً، بحيث لا يتردد قادة محور سياسي إقليمي في اعتبار السباق اللبناني معركة مفصلية تُشبه حرب تموز (أي عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006)، وبالتالي يعتبرون التصويت ضد "محور الممانعة" بمثابة عدوان على المقاومة، والمقترعون ضدها يعاملون كأنهم أعداء. بينما لا تتوانى قوى هذا المحور عن تقديم كل أنواع الإغراءات للناخبين ليقترعوا للوائح مدعومة منها، بما في ذلك توزيع مادة المازوت والأغذية والأموال على الناخبين، وغالبية هؤلاء بحاجة ماسة للمساعدة، حتى ولو جاءت من قوى سياسية كانت سبباً في إيصالهم إ لى الإنهيار، أو إلى "جهنم".
ليس أكيداً أن العملية الديمقراطية في لبنان ستؤدي الى إنتاج نُخب سياسية جديدة، أو أنها ستفرز نواباً يعبّرون عن كامل إرادة الشعب. لأنّ العوامل المالية والتدخلات الخارجية تفعل فعلها في التأثير على النتائج، وبالتالي تشويه صحة التمثيل. ولم يعد سراً أن دولاً خارجية قريبة أو بعيدة تتدخل بقوة في العملية، وهدفها محاصرة مرجعيات وطنية لبنانية تطالب بالسيادة الكاملة، وبأن يكون القرار اللبناني مستقلاً عن التأثيرات المحورية. وهذه المرجعيات تنادي بالحفاظ على لبنان كجزء لا يتجزأ من الوطن العربي ومنفتحاً على العالم، ويحترم الحريات العامة والتنوع السياسي والديني. ولم تخفِ قوى تمثل "محور الممانعة" نيتها في خوض معركة انتخابية من أجل فوز حلفاء لها على الساحة المسيحية، أو الدرزية، أو السنّية، لأن فوز هؤلاء سيمكنهم من استكمال السيطرة على المؤسسات الدستورية اللبنانية، بما في ذلك على موقع رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، ومجلس النواب.
وعلى الضفة الأُخرى تنغمس القوى "السيادية" في خلافاتٍ بينية تُضعف دورها، لاسيّما مع مقاطعة طرف رئيسي من هذه القوى للانتخابات، وهو تيار المستقبل الذي يتمتع بنفوذ كبير في الأوساط الإسلامية. وهذه القوى تحارب انتخابياً على جبهتين مختلفتين: الجبهة الأولى مع القوى المدعومة من محور "الممانعة"، والجبهة الثانية مع قوى من "الحراك المدني" التي تتألف من نُخب أكاديمية مقبولة، ومن شخصيات تدور حول بعضها الشبهات، خصوصاً أنّ لوائح "الحراك" لا تتمتع بأي حرية حركة في المناطق التي تسيطر عليها قوى الممانعة في الجنوب والبقاع، بينما تنعم في المناطق الأخرى برخاء وحماية، ولا تخشى من أي مخاطر. وهذا الأمر يعني حكماً أن لوائح الحراك تنافس القوى السيادية فقط، وعندها تبقى لوائح محور الممانعة خارج المنافسة الى حدٍ ما.
لا بديل عن النظام البرلماني، وعن التنوع واحترام الحريات العامة في لبنان، لكن القانون الطائفي المعتمد في الانتخابات شوّه هذا النظام. والتدخلات الخارجية – لا سيّما من محور الممانعة – استكملت عملية التشويه، لأنها أدخلت وسائل تهديد، أو إغراء، جديدة على اللعبة الانتخابية ليست في صالح الديمقراطية الحقة.
*تنشر بالتزامن مع "الخليج الإماراتية"