Advertise here

وليد جنبلاط.. "بورتريه" زعيم اشتراكي

11 أيار 2022 23:17:04 - آخر تحديث: 12 أيار 2022 00:01:04

في خطابه يوم السبت، في 6 أيار/ مايو 2022، لم يؤكّد وليد جنبلاط على دوره كزعيم بلا منازع للطائفة الدرزية فحسب، بل كشخصية قيادية أساسية في الحياة السياسية اللبنانية. إنّ شخصية هذا الرجل، وريث سلالة من زعماء الجبل العظماء، لم تنته من مفاجأة الخصوم كما الأصدقاء، فكيف نفهم هذه الشخصية بعيداً عن كل الانشقاق السياسي لبناني؟
 
على دم والده كمال، الذي اغتيل في 16 آذار/ مارس 1977، ورث وليد جنبلاط زعامة دار المختارة وقيادة الطائفة الدرزية كما أصبح شخصية محورية في المعادلة السياسية اللبنانية بصفته رئيساً للحزب التقدمي الإشتراكي وقائداً لليسار اللبناني المنضوي آنذاك تحت لواء الحركة الوطنية اللبنانية. 

مساء السبت في 6 أيار/ مايو 2022، وانطلاقاً من منطق النسب والسلالة السائد في لبنان، خاطب وليد جنبلاط أبناءه الثلاثة تيمور، الوريث السياسي، وداليا وأصلان بلهجة  مهيبة، وحثّهم على المحافظة على تراث آل جنبلاط وعلى زعامة المختارة. كما حثهم على الإنخراط في البحث عن الخير العام للبنانيين عن طريق الديمقراطية. "فقط من خلال التصويت الديمقراطي نستطيع كبح جماح حزب الله"، أعلن وليد جنبلاط في خضم حُمّى الانتخابات التشريعية الحالية.  وهكذا استبدل السلاح بالأصوات الموضوعة  في صناديق الاقتراع. يثبت أمير الحرب أنّه من أنصار الديمقراطية الإجتماعية  مع البقاء على يقين أن سبب وجود السياسة هي حل النزاعات او تخفيفها في حال حدوثها.
 
لا تتوقف شخصية وليد جنبلاط عن كونها مثيرة للاهتمام. فكل من يلتقي وليد ونورا جنبلاط عن قرب يستطيع أن يلمس لياقتهما الطاغية. كل من احتكّ بوليد بك في حياته العامة، أيقن كيف يتجسّد مفهوم "السلطة والنفوذ" ليس فقط على مستوى ممارستهما، بل على مستوى المحافظة عليهما أيضاً. غالباً ما يُطلق عليه لقب "المتقلِّب" لاتّباعه بعض الخيارات السياسية التي يعتبرها العامة تعسفية لتناقضاتها الظاهرية. كما يتميّز بصفة حدسية من البصيرة تسمح له بالتقاط موجات التغيّرات الجيو-ستراتيجية التي تلوح في الأفق، فهو يعرف في الوقت المناسب كيف يُثبّت أقدامه على رقعة الشطرنج السياسية المتغيّرة وغير المستقرة.
 
إنّنا من المعجبين جداً بالرقيّ الخالي من التفاخر والتباهي الذي يبثّه وليد جنبلاط بتعامله مع ضيوفه، ولكننا نشعر بالخشية من استيائه ومن غضبه بنفس القدر، علماً أنّنا نقدّر ونجلّ إخلاصه لأصدقائه وحرصه على صداقاته. ورغم تركيزنا على التدقيق في مواقفه المتبدّلة والمتحركة، يسحرنا في غرفة معيشته بعذوبة حديثه، فهو المتملك من فن النقاش. ونعترف بانبهارنا المستمر بالمستوى العالي لمعارف هذا القارئ النهم العاشق للكتاب، مع إدراكنا ويقيننا بقدرته الثابتة على اللجوء إلى العنف، واستخدام القوة عند الضرورة. 
 
وليد جنبلاط ليس فيلسوفاً ولا حكيماً عظيماً مثل غاندي، رغم معرفتة الشاملة بالفلسفة السياسية. إنّ ما يميّز هذا الرجل هو تذوّقه الإنتقائي للآداب مما يجعله شخصية استثنائية بين سياسيّي لبنان. وقد تكون ثقافته العميقة هي ما تجذب إليه الشخصيات الديبلوماسية الأجنبية التي تزور لبنان أو تعمل فيه.

إن تعطّش ونهم وليد جنبلاط لتبادل المعارف والأفكار بتواضع ملحوظ يظل لغزاً لدى أولئك الذين لا يرون فيه إلّا زعيماً عشائرياً. هل هو معادٍ متطرف للمسيحيين كما يعتقد البعض؟ نترك الإجابة للتاريخ في ظل العلاقات المضطربة التي أدّت إلى النزيف الدموي في جبل لبنان خلال قرنين من الزمن، كجزءٍ من الصراع على السلطة بين العشيرتين الدرزية والمارونية.
 
كيف نستطيع أن نفهم أمير الجبل، هذا الذي يتحلّى بثقافة حضرية انتقائية راقية؟ 

كيف نستطيع أن نحلّل قدرته الاستثنائية على التكيّف مع الظروف السياسية الراهنة مع التمسّك بشدة، والإخلاص الكبير، لبعض الثوابت التاريخية مثل القضية الفلسطينية وقضية الشعب السوري، واعتماده الدائم على خيار العروبة؟
 
مَن هو هذا الزعيم السياسي؟ لمحاولة قراءة شخصيّته علينا أن نغوص بعيداً في التاريخ، إلى أفلاطون وجمهوريته، وأرسطو وسياسته، وكوينتيليان وبلاغته الخطابية، وشيشرون وخطاباته "كاتلين"، وزينوفون (أو كسينوفون) والكيروبيديا الخاصة به، والعديد من فلاسفة وخطباء الأقدمين. ولكن، سنكتفي بالاختيار بين إثنين من أعظم منظّري السياسة الحديثين، إيراسموس (أو إيرازموس) ومكيافيلّي، اللّذان لا تزال مفاهيمهما المتعارضة تشغل، حتى يومنا هذا، جميع الذين يفكّرون في السياسة وممارسة السلطة.
 
هذا التعارض يعكس مفهومَين متناقضين ومتميّزين بين الحقوق والقانون. بالنسبة للمفكر إيراسموس ونظريته المبنيّة على "القانون الطبيعي"، فإنّ القانون هو نتاج الطبيعة، وهو نظام غير قابل للتغيير. من ناحية أخرى، بالنسبة للمفكر مكيافيلّي، فإنّ القانون يتم وضعه بحسب أهواء المشرّع ومصالحه؛ إنه عمل من صنع الإنسان، وليس تعبيراً عن إرادة مقدّسة سماوية. من وجهة نظر إيراسموس، الأمير هو الراعي في خدمة رعاياه مثل الأب الصالح، وسلطته تتمثّل بمجموعةٍ من الإلتزامات والواجبات الأخلاقية.

إنّ وجهة النظر المكيافيلية تصرّ بالأحرى على "فضيلة" الأمير نفسه، وعلى سلطته وإرادته التي تؤسّس للقوة والحق. ومن المفارقات أنّ مثل هذا الإستبداد لا يؤدي إلى حكم الأمير المطلق، بل يؤدي إلى نسبية في السلطة. وهو شبيه إلى حدٍ ما بالخالق الذي ينسحب، إلى حدٍ ما، من مسيرة التاريخ الإنساني، ولكن ذلك لا يقلّل بأي شكل من الأشكال من سلطته المقدسة. باستخدام هذه النظرية كاستعارة، يصبح من الممكن أن نفهم إمكانية أن يكون الشخص سيّداً إقطاعياً يتحلى بالآداب اللائقة، ويختار اعتماد الإشتراكية الثورية.

ليست القوانين سوى اتفاقيات تسبق ممارسة الأمير لسلطاته، مما قد يجعلها وسائل غير كافية للحكم. وعليه، فالأمر متروك للأمير لمعرفة كيفية استخدام القوة عند الحاجة. بالنسبة لمكيافيلّي "من الضروري أن يعرف الأمير كيفية الاستخدام الجيّد للوحش حيناً وللإنسان حيناً آخر. لذلك من الضروري على الأمير أن يكون ثعلباً ليستطيع اكتشاف الأفخاخ، وأن يكون أسداً لترهيب الذئاب". لكن التسلّط ليس كافياً، حيث هناك تلك الوقائع الغامضة التي أطلق عليها الرومان اسم "فورتونا" (إلهة النصيب وتجسيد الحظ)، والإغريق "كايروس" (إله اللحظة المناسبة). إن تسلّط الأمير ليس قاعدةً ثابتة، وعليه أن يكون قادراً على استخدامه حسب الظروف، كما يجب أن يكون الأمير قادراً على التقاط "كايروس" لحظة عبوره. هذا ما نعترف به بقدرات وليد جنبلاط في الواقعية والبراغماتية: فنّ سماع أنفاس "كايروس" عند مروره كالبرق والاستيلاء عليه، ثم ترجمة ذلك إلى خيارات تبدو متناقضة. لا يتم اتخاذ هذه الخيارات وفقاً لسيادة الأخلاق، ولكن وفقاً لممارسة سلطة ضرورية للحفاظ على منظومة معينة سابقة لوجوده، وعليه مسؤولية المحافظة عليها، ونقلها إلى من يليه.
 
لا يزال وليد جنبلاط في نظر الكثيرين مثيراً للجدل، حيث أنّ شخصيته السياسية تجعله أقرب إلى "الوضعية البراغماتية" منه إلى "الطبيعية النظرية". وللمفارقة، فإنّ اشتراكيته لا تجعله أفلاطونياً مثالياً ما دام متمسكاً بالواقعية السياسية، بل سياسياً أصيلاً ومتميزاً. إن تحضّره الراقي وثقافته الواسعة تتركان أثراً مستداماً على كل من يتعرّف عليه.

 

Walid Joumblatt: portrait d’un seigneur socialiste

https://icibeyrouth.com/liban/69670

 

*نقله إلى العربية: رشيد جنبلاط