Advertise here

"تصفير" صادرات إيران "الآيديولوجية"

03 أيار 2019 09:13:00 - آخر تحديث: 10 أيلول 2020 16:10:17

تدخل إيران مرحلة "تصفير" صادراتها من النفط تنفيذاً لبرنامج عقوبات أميركية يستهدف القطاع الرئيس في الاقتصاد الإيراني. فمنذ أخذ الرئيس دونالد ترامب على عاتقه مراجعة السياسات التقليدية للولايات المتحدة، وضع أمامه كهدف مجموعة من المعاهدات والاتفاقات التي وُقّعت خلال الحرب الباردة، ولاحقاً في ظل نظام العولمة الذي ساد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.


رحلة العودة من العولمة، رتّبَت على ترامب تصنيف تلك المعاهدات في خانة المُجحفة في حق الأميركيين، والمتناقضة مع مصالح الولايات المتحدة، بدءاً من اتفاق باريس للمناخ، مروراً بمعاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، وصولاً إلى معاهدة تجارة الأسلحة التقليدية وغيرها. حتى تحالف الأطلسي لم يكن بمنأى عن إعادة النظر. الاتفاق النووي مع إيران كان واحداً من سلسلة طويلة من المعاهدات والاتفاقات المُستهدفة.

المُختلف في ترامب، أنه يقرأ العالم من زاوية قوة الولايات المتحدة وليس فقط مصالحها. ولا يكترث إلى منسوب المغامرة والارتجال في خطواته. المهم لديه أن يأتي بخصومه إلى طاولة مفاوضات ينتج عنها صفقة جديدة.

طبعاً، إن سلاح العقوبات ليس جديداً كوسيلة تعتمدها الولايات المتحدة، إنما الجديد هو تأثيراته على دول كثيرة وغياب الاستثناءات، إضافة إلى حجم الفعالية نسبةً إلى المدى الزمني المعمول به. هذا بالتحديد ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى القول أن سلاح العقوبات الذي يستخدمه ترامب، يمثل تحولاً من كونه أداةً للصراع الجيوسياسي، ليصبح عنصراً في التنافس العالمي ووسيلة تَلاعُب وضغط على المنافسين.

بهذه السياسة، تضرب الولايات المتحدة عشرات العصافير بحجر واحد. وأصبح هذا الأمر بمثابة ورقة استراتيجية يمتلكها ترامب للإمساك بالتوازن في سوق النفط، من موقع مُنافس لكبار المُنتجين، "أوبك" وروسيا على حد سواء. إضافة إلى خلق بيئة وفلسفة اقتصادية لدى شركات كبيرة داخل الدول، تقودها المصلحة إلى اللحاق بالخطة الأميركية حتى لو كان للحكومات رأيٌ آخر. ووفقا لتقرير "معهد أكسفورد لدراسات الطاقة" انخفض استيراد تركيا اليومي للنفط الإيراني بمعدلات كبيرة حتى قبل بلوغ موعد الثاني من أيار (مايو).

إن تصفير صادرات إيران من النفط، إذا تحقق، يعادل شطب 80 في المئة من موارد الاقتصاد الذي يشكل القطاع الحكومي والتعاوني، ومن ملحقاته التي تشكل أيضاً قرابة 80 في المئة. لكنه يُمثل على المستوى النفسي إقصاءً استراتيجياً لنظام ليس باستطاعته التكيّف، أو التوفيق بين طموحاته الاقتصادية والآيديولوجية، في غياب النفط واعتماداً على البدائل الداخلية فقط.

بالتوازي، تستفيد إيران من تجربة طويلة في مواجهة العقوبات. إذ إن "اقتصاد المقاومة" الذي اعتمدته، منذ أزمة الرهائن لحد اليوم، نجح في الصمود والتعايش مع كل الظروف. ولم ينجح الغرب في استخدام تلك العقوبات كأداة لتغيير النظام. لا بل استفادت الجمهورية الإسلامية من ميزاتها الاقتصادية لتصدير الثورة والآيديولوجيا إضافة إلى النفط، وحافظت على مكانة في سوق النفط العالمية. إيران كانت تُهدي أتباعها من الميليشيات، أو حتى الشخصيات في المنطقة، أباراً نفطية، وتحوّل إليهم مداخيل تلك الآبار.

تعود فكرة اقتصاد المقاومة إلى الخميني الذي نُقِلَ عنه خلال أزمة الرهائن أن المقاطعة الأميركية لن تضر بالسكان لأنهم، في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يعتمدون في غذائهم على التمر فقط. وفي عام 2012 طوّر المرشد علي خامنئي مفهوم المقاومة الاقتصادية باعتباره يُكرّس الاعتماد على الطاقات الداخلية، ويقوم على تعديل نمط الاستهلاك ليصبح أكثر تقشفاً وتماشياً مع القيم الإسلامية!

تتحضّر إيران لمواجهة الضغوط على شعبها بالتوجّه إليهم بكلام مُقنِع، بحيث ركّز بيان خامنئي في مناسبة الذكرى الـ40 لانتصار الثورة الإسلامية على منجزات الثورة على الصعيد الاقتصادي في الداخل، متحدثاً بلغة الأرقام والمعطيات الحسّية ومُبتعداً عن الشعارات الفضفاضة. ولم يأتِ على ذكر إسرائيل أو "الشيطان الأكبر". وكان من الواضح أن حجم الاعتراض الداخلي على السياسات الخارجية استدعى ذلك.

لكن الأهم في برنامج العقوبات أنه يأتي في توقيت يشهد تنافساً بين براغماتيّتين، فارسية وروسية. وكلٌ لديه تاريخ إمبراطوري وطموح جامح لاستعادته. والوقائع التاريخية تقول إن امتداد الواحدة منهما عادةً ما يكون على حساب الثانية والعكس.

الثورة الإسلامية تجاوزت الحد العراقي ونجحت في التصدير مع دخول الحقبة السوفياتية مرحلة الركود الفعلي، وتخلخل العلاقة بين السوفيات والنظام القومي العربي، وانتقال مصر إلى المقلب الآخر. ولو أن الحقبات الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية أعادت الاعتبار إلى الآلة العسكرية الروسية، خاصة في "حرب الجبل"، ورتّبت توازناً نسبياً بعد تدمير إسرائيل لمنظومات الدفاع الجوي الروسية الصنع لدى الجيش السوري في البقاع. حينها، دخل "الحرس الثوري" إلى لبنان من هذه النافذة وصدّر أنموذجه، واستغل الضعف السوفياتي وانتهازية نظام حافظ الأسد. وتتالى الصعود وصولاً إلى لحظة استجداء "الحرس الثوري" روسيا التدخل لإنقاذ بشار الأسد، وتعويم محور الممانعة في 2015.

ربما تتلخّص نجاحات المعركة التي يخوضها النظام الإيراني في منع الولايات المتحدة من بلوغ هدفها المُعلن بـ"تصفير" صادرات النفط وجلب القيادة الإيرانية إلى طاولة المفاوضات. وطالما أن إيران أصبحت وحدها، ولم ينفعها تمايز الموقف الأوروبي عن الولايات المتحدة، فإن ذلك يستدعي المُفاضلة بين خياري تصفير الصادرات النفطية أم الآيديولوجية. طبعاً مع ملاحظة أن تصدير الآيديولوجيا بات أمراً مستحيلاً بعد انكشاف الأنموذج واصطدامه بالوعي العميق لدى شعوب المنطقة!

لكن المشكلة ليست هنا، بل في الطريقة التي تذهب إليها إيران إلى المفاوضات، إضافة إلى التوقيت الذي من شأنه أن يظهر نوعاً من التكافؤ بين الطرفين.

أهدرت إيران فرصة ثمينة حين كانت في أوج سيطرتها على أربع عواصم عربية فعلياً. أما إعادة بناء توازن مُلائم واستحضار لحظة مُناسبة للتفاوض حول تدخلاتها في المنطقة، فهذا ما تُحدده الخطوات الإيرانية في المستقبل.