حتى تاريخ 1888م، لم يكن هناك في طرابلس بنوك أو مصارف للودائع المالية، أو للمعاملات التجارية. وإنّما كان هناك تجار، وصيرفيّون، ومرابون، وأغنياء، وميسورون، اتّخذوا لهم حوانيتهم المعروفة داخل أسواق المدينة القديمة، خصوصاً في سوق الصاغة/ سوق الجوهرجية، أو سوق القمح، أو سوق البازركان، أو داخل الخانات في باب التبانة، وفي طلعة العمري/ طلعة القبة، وبوابة الميناء وأسواقها الداخلية.
وكانت العملات الذهبية التركية والأوروبية، كما العملات الورقية، تُصرف وتُستبدل في هذه الحوانيت. وكان جهاز ديوان الحسبة في المدينة، التابع مباشرة لحاكم المدينة، هو المكلّف بأعمال المراقبة والحسبة: يمنع الغشوش، ويراقب التزوير، وينظر في الشكاوى والدعاوى المتصلة بذلك، وخصوصاً منها المعاملات التجارية والعقارية، على حد سواء.
ويذكر المؤرخون لتلك الحقبة التاريخية من عمر مدينة طرابلس، أنّ أول مصرف ظهر في المدينة هو "مصرف أنطانيوس وحنا فاضل"، وكان ذلك في العام 1889، وقد افتتحه السيّدان "الأخوان فاضل" في شارع الجميل، قرب البلدية القديمة، والتي كان قد مضى على إنشائها زهاء عشر سنوات. وكان إنشاء أول بلدية بطرابلس، كما إنشاء أول مصرف فيها، لممّا يؤذن بأنها كانت تحضّر نفسها للتحديث، من خلال بناء المؤسّسات فيها.
وفي العام 1893، بادر السيّدان حسني ذوق، وعبد الستار أديب، لتأسيس "بنك ذوق وأديب"، في خان الصابون، بمحلة الصاغة. وقد سارت المعاملات المالية والتجارية في هذين المصرفين على قدم وساق، ونال "بنك ذوق وأديب" سمعةً مالية نظيفة، كما نال شهرة عظيمة لدى حاكم طرابلس، وكذلك لدى القناصل الأجنبية المتواجدين في المدينة. وهذا ما شجع الدولة العثمانية على شرائه، فأصبح يعرف فيما بعد ب"البنك العثماني".
وظلّ "البنك العثماني" يعمل بصورة طبيعية حتى وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. فتحوّل بعد خروج الأتراك وحلول الفرنسيين محلّهم إلى "بنك سوريا ولبنان". وصار هذا البنك، هو المسؤول عن إصدار العملة الرسمية.
وفي العام 1964، انقسم هذا البنك إلى فرعين: الأول هو البنك المركزي، وهو مصرف لبنان الحالي بطرابلس، والتابع لإدارة مصرف لبنان المركزي في بيروت. وأما الثاني فهو: الشركة الجديدة لبنك سوريا ولبنان.
وفي نهايات القرن التاسع عشر، تأسّس بنك جديد ثالث، هو "بنك عزالدين وأديب"، على يد السيّدين: مصطفى عزالدين، ورشاد أديب. وذلك في مكان "مقهى فهيم" اليوم في شارع التل. وقد سُمّي الشارع الخلفي له باسمه: شارع مصطفى عزالدين، وهو المطل على شارع الراهبات، حيث كانت تقوم "مدرسة الراهبات" سابقاً، وقد تحوّل هذا البنك فيما بعد، إلى "بنك مصر- لبنان".
وظهر في تلك الحقبة أيضاً، "بنكو دي روما" في محلة التل. وقد توقف هذا البنك عن العمل طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب موقف إيطاليا وتحالفها مع ألمانيا، غير أنّه سرعان ما عاد إلى العمل في العام 1950، فكان تجديده إيذاناً بمرحلة جديدة من نهوض المدينة.
ظهرت في طرابلس أيضاً، "الشركة الجزائرية للتسليف والصيرفة". وقد تحوّلت هذه الشركة إلى "البنك اللبناني- الفرنسي". وفي نفس الوقت تقريباً، ظهر "المصرف العقاري الجزائري- التونسي"، والذي تحوّل فيما بعد، إلى "فرنسَبنك".
وفي فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ظهرت في طرابلس مجموعة من المصارف الصغيرة، وكانت تعتمد على "خصم السندات". وكانت بالإضافة إلى ذلك تتلقى المبالغ المالية التي كان المهاجرون اللبنانيّون يحوّلونها إلى أقاربهم في لبنان. وكانت تتقاضى عليها رسوما وعمولات محدّدة. ونذكر منها: "بنك أنطوان شاهين"، في أول شارع الزاهرية، و"بنك كيروز" في شارع عزالدين، و"بنك أنطوان كبابة" في شارع التل، و"بنك دياب نصر"، في شارع عزالدين، وقد تحوّل هذا الأخير فيما بعد، إلى "بنك نصر اللبناني- الإفريقي" في ساحة الكيّال.
لقد شهدت المدينة نشاطاً مالياً عظيماً بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، فسارع سكانها الأغنياء والميسورون، إلى إفتتاح عدد جم من المصارف. في طليعتها: البنك العربي، والبنك اللبناني للتجارة، وبنك الصناعة والعمل، وبنك بيبلوس، وبنك التجارة الخارجية، وجمال ترست بنك، وبنك لبنان والخليج، وبنك الاتحاد الوطني، والبنك التجاري، وبنك بيروت والبلاد العربية، وبنك لبنان والمهجر، والبنك الأهلي الأردني، وبنك الشرق للتسليف، وبنك بيروت للتجارة، وبنك عبر الشرق، وبنك إنترا، والبنك اللبناني- العربي، وبنك المشرق، وبنك الاعتماد اللبناني، وبنك هندلو في الشرق الأوسط، وأدكوم بنك، والبنك البريطاني للشرق الأوسط، وبنك البحر المتوسط، وبنك الإنماء، وبنك الاعتماد الشعبي، والبنك اللبناني- الباكستاني، والشركة المصرفية اللبنانية- الأوروبية، وبنك عودة، وبنك لبنان والكويت، وبنك التوفير، والبنك الدولي العربي، وبنك الإنماء والبنك اللبناني البرازيلي.
إنّ تكاثر المصارف في طرابلس، إنّما كان يؤشّر على نمو المدينة، وحسن أوضاعها الاقتصادية. وقد أودع الطرابلسيون أموالهم فيها، مما شجّع على نمو المصارف، وافتتاح فروع لها في مختلف نواحي المدينة والمناطق المحيطة بها.
وكان وجود المرفأ الناشط فيها، كما وجود سكك الحديد، كما وجود منشآت النفط، ومعامل السكر، والخشب، والأقمشة والنسيج، والنحاس، والأحذية، وكذلك معامل الحلوايات والزيوت والحليب ومشتقاته، لممّا أسهم إسهاماً فعالاً في ازدهار بنوك ومصارف طرابلس.
غير أنّ الأحداث الجسيمة التي وقعت فيها، إبتداءً من ثورات الوحدة مع سوريا في العشرينيات، وكذلك ثورة الاستقلال، وثورة 1958 الأهلية، بالإضافة إلى الحرب الأهلية إبتداءً من العام 1975، والتي أخرجت معظم المسيحيين منها، ومروراً بحروب المخيّمات، وبحروب باب التبانة وجبل محسن، والتي دامت زهاء أكثر من ثلاثين عاماً، هي وغيرها ممّا لا مجال لذكره هنا، إنّما أهلكت المدينة، وأهلكت المصارف معها. وأوقفت بالتالي، وعطلت دورة الحياة الاقتصادية، فتراجعت طرابلس عن دورها ونشاطها الاقتصادي. وتراجعت معها دورة الحياة المصرفية، مما جعل الرساميل تهرب منها إلى بيروت والخارج. ومما جعل عدداً جماً من المصارف تغلق أبوابها، وتغادر المدينة. وكان ذلك من تعاسة حظ طرابلس وأبنائها.
*ينشر بالتزامن مع صحيفة "النهار"