"النكيشة" مصطلحٌ جديد سَطَعَ في بيروت أخيراً ونافستْ أخبارُه في الـ48 ساعة الماضية القضايا الساخنة في العاصمة المسكونة بأزماتٍ "وجودية" على المستويات الوطنية والسياسية والمعيشية.
ففي الدولة - الخردة، وفق توصيف مؤسسات التصنيف الدولية، نمتْ دويلةُ "النكيشة" وترعرعتْ في الخواء السياسي وفي أحضان العجز الرسمي عن حل مشكلات النفايات و"جبالها العامر" منذ العام 2015.
قبل أيام توقفت شركة "رامكو" المولجة تجميع النفايات ومكباتها عن العمل، وللمرة الثانية، عن متابعة عملها في مطمر "الجديدة" وفي بيروت وكسروان، وذلك إثر إشكال بين "النكيشة" والعمال في المطمر. وجاء هذا التطور بعد إنتشار معلومات عن دهس آلية للشركة أحد النكاشين من التابعية السورية، (تبين انه ما زال على قيد الحياة بعد إشاعات عن وفاته)، ما دفع الشركة لوقف عملها بسبب "غياب الأمن" في المطمر، وإلى حين حل مشكلة النكاشين.
ورُصدت اتصالات بين وزير البيئة ناصر ياسين ووزير الداخلية بسام المولوي لـ"حل مشكلة توقف "رامكو" عن عملها لأسباب متعلقة بحفظ الأمن في المطمر"، وهو ما يؤشر إلى عجز الدولة عن حماية "مزبلة" بعدما استقوت عليها دويلة النكيشة.
وصعود نجم هذا المصطلح في الحياة العامة اللبنانية جاء ليزيد على نكباتها نكبةً جديدة غريبة المنشأ والمفاعيل.
في اللغة، النكش هو إخراج ما في الأرض والتنقيب عنه، وهو يُستعمل عادة في الزراعة حيث يعمل الناكش على قلب الأرض لغرس البذور فيها حتى تنمو وتكبر وتعطي جنى. أما في لبنان فالنكشُ لا صلة له بالزراعة.
و"النكّيشة" هي صيغة لغوية لفئةٍ من الأشخاص امتهنت نكْشَ مكبّات النفايات والبحث فيها عن مصادر رزق قد تصل حد تحقيق ثروات مَخْفِية. لكن هذا العمل على تَواضُعه وغاياته صار في لبنان مَصْدَراً لأزمة جديدة قديمة تحمل طابعاً بيئياً وحياتياً وحتى أمنياً، وهي أزمة تَراكُم النفايات في الشوارع بعد قفل مطامرها بسبب "النكيشة".
مَن هم هؤلاء الأشخاص وكيف يمكن لمجموعة من الناس المسحوقين المهمَّشين الذين يعتاشون من البحث بين أطلال النفايات أن يسببوا أزمة جديدة في بلاد غارقة في الأزمات وأن يغرقوه بالنفايات؟ القصة ليست ابنة اليوم بل بدأت أول "أفواج النكيشة" تَظْهر في شكل منظَّم منذ صيف 2021 حين بدأت مفاعيل الأزمة الاقتصادية تلقى بثقلها على اللبنانيين وعلى المقيمين فيه من لاجئين ومهمّشين.
"النكيشة" قوة منظّمة حينها انتشرت ظاهرة سرقة أغطية المصارف الصحية والكابلات النحاسية وأعمدة الكهرباء وكل ما يمكن ليد السارقين أن تطاله، وكذلك انتشرت معها ظاهرة العبث بمستوعبات النفايات وتفريغها على الطرق والأرصفة لتفتيش محتوياتها واستخراج ما يمكن بيعه منها.
وتمحورتْ هذه الظاهرة التي أطلق عليها اسم "النكيشة" حول تجميع الحديد والنحاس والمعادن في شكل خاص لنقلها إلى سوريا أولاً التي تعاني من حصار مفروض عليها، أو إلى تركيا عبر أشخاص يتزّعمون هذا "البزنس" فيَجْمعون في بؤر محدَّدة ما يتم جنيه من النفايات أو الطرق والمَرافق العامة لبيعه فيما بعد إلى تجار آخرين في عملياتٍ غالبيتها غير شرعي وتشبه عمليات المافيا.
وكان صغار النكيشة يجمعون الكرتون والبلاستيك والزجاج من مستوعبات النفايات ويحملونها إلى شركات مختصة بإعادة التدوير ليجنوا منها بعض المال، فيما قسم آخر منهم إتخذ من المطامر أرضية خصبة لأعمالهم.
وفي أوائل آب 2021، توقفت شركة "رامكو" المولجة بجمع النفايات من قضاءي المتن وكسروان عن العمل بعد إنسحاب القوى الأمنية وعناصر شرطة بلدية الجديدة المولجة بحماية مطمر الجديدة من المكان إثر اعتداءات تعرضوا لها من النكيشة الذين أقدموا أيضاً على سرقة معدات من المطمر والإعتداء على عمال الشركة ومنعهم من إفراغ النفايات فيه. يومها قامت بلدية بيروت بحملة مكافحة للنكيشة الذين يعيثون خراباً في الأحياء والطرقات بعدما أقرّ مجلسها بضرورة الحد من هذه الظاهرة التي أثارت الكثير من ردات الفعل المستاءة عند أهل العاصمة. وتم الاتفاق مع القوى الأمنية على وضع نقطة أمنية في المكان لمنع عودة النكيشة واعتدائهم على العمال.
قبل مدة، بدا أن هذه الظاهرة اتخذت بُعداً أوسع وأشدّ تنظيماً، فالحظر على عمل النكيشة لم يستمر طويلاً وغابت المراقبة الأمنية الحثيثة عن مطمر «الجديدة» الذي استبيح من مجموعات منظمة من الشبان والمراهقين والأولاد الذين أعاقوا تفريغ شاحنات النفايات واعتدوا بالضرب والطعن وبرشق الحجارة على العمال وسائقي الشاحنات وتجمهروا حولهم بالمئات مجبرين إياهم على تفريغ حمولتهم بما يتناسب مع عمل النكيشة. ودفعت هذه الاعتداءات المتكررة بعمال النظافة إلى إعلان الإضراب عن العمل والتوقف عن جمع النفايات من الشوارع لا سيما في بيروت والمتن وكسروان للمطالبة بتأمين حماية لهم وردْع "النكيشة". وتمّ إقفال أبواب مكب الجديدة أمام الشاحنات من قبل المتعهد حفاظاً على عماله. وقد أدى ذلك إلى تكدُّس النفايات في الشوارع في وقت كانت بيروت تشهد أمطاراً غزيرة وقمم لبنان تتكلل بالأبيض، في منظر مؤلم لطخ وجه العاصمة الجميل وملأ أنوف سكانها بروائح الذل والقهر.
النفايات ثروة مَخْفِية وقبل أن ينفجر الأمر منذ أيام، كانت تحلحلت الأمور على الطريقة اللبنانية وتمّ رفع النفايات من الشوارع لكن السؤال الذي يطرحه اللبنانيون: مَن يقف وراء هذه المجموعات ويمدّ العاملين فيها بالقوة لمواجهة حراس البلديات المولجين بأمن المطمر والوقوف في وجه القوى الأمنية؟ وهل البحث في النفايات هو مصدر رزق لهؤلاء الفقراء الذين لا يجدون له بديلاً هرباً من جحيم الواقع أم أنها مافيا منظّمة تجني أرباحاً طائلة من النفايات تدفعها لـ"المحاربة" من أجل الحفاظ على أرباحها؟ الجواب على هذه الأسئلة قد تعطيه الأرقام التي تكشف حجم هذه التجارة التي باتت منظّمة وتدخل في صلب الاقتصاد الرديف، كما تكشف حجمَ ما يجنيه هؤلاء ومَن خلْفهم مِن بيع المعادن التي يجمعونها.
بعض الإحصاءات أشارت إلى أن حجم صادرات لبنان من الخردة بلغ في العقد الأخير نحو 2.3 مليار دولار موزَّعةً على الشكل الآتي: 1.05 مليار دولار خردة حديد، 997 مليون دولار خردة نحاس، 257 مليون دولار خردة الومينيوم، 3 ملايين دولار خردة زينك ومليون دولار خردة رصاص.
ولا شك في أن هذه الأرقام غير المتوقَّعة تلقي الضوء على مصادر هذه الخردة التي يتم جمْع قسم منها في شكل قانوني إذ يتم شراؤها من مؤسسات وشركات كبرى تودّ التخلص منها فيما القسم الآخَر يجْري جَمْعُه من النفايات التي لا تخضع في لبنان لأي عمليةِ فرْزٍ أو تدوير ولا يتطلّب النكش فيها أذونات أو يتوجّب عليها دفْع ضرائب أو رسوم.
من هنا، يمكن فهْم تشبث كل الضالعين بهذه التجارة بعملية النكش في المطامر وبذلهم الجهود لحمايتها ولو بالقوة.
ولكن إذا كان هؤلاء صاروا من أصحاب الملايين، فإن أولئك الشباب والصغار الذين يبحثون في أكوام القمامة يضعون أرواحهم على أكفّهم ويعرّضون صحتهم للخطر نتيجة ما تفرزه النفايات غير المعالَجة من سموم وغازات ضارة. إلا أنه بالنسبة إلى غالبية هؤلاء الذين يتوزعون بين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وبعض الجنسيات الأخرى، فإن خطر الجوع أشد إيلاماً بتداعياته من مخاطر صحية بعيدة الأمد. أما بالنسبة إلى اللبنانيين فالصورة التي يعكسها منظر النكيشة كما بؤر تجميع الخردة تدلّ على تَغَيُّر وجه لبنان وإنحداره المؤكّد إلى فئة الدول الفقيرة المهمَّشة.