أكثر الأمور إثارة للاستهجان والاستغراب، حين يتداول بعض الناس بأحاديثهم أبعاد ما يثار حول الانتخابات النيابية هو أنّ السجالات الدائرة متفق عليها بين الجهات المتنافسة، وتهدف لشد العصب، وحث المواطنين على الانتخاب، كل فريق لجهته. وأكثر المروجين لهذه الأخبار الملفقة هم الذين يدورون بفلك ما يسمى بالمجتمع المدني لإظهار نفسهم على أنّهم البديل الموضوعي والصالح بوجه الطبقة السياسية، حيث وضعوا الجميع، من يمسك بزمام حكم البلاد ومن لا يمسك، في قفص اتّهام واحد تحت شعار "كلن يعني كلن".
حين انطلقت شرارة انتفاضة 17 تشرين، نزل المواطنون من كافة شرائح المجتمع اللبناني إلى الطرقات، ورفعوا شعارات محقة، وطالبوا بالدولة العادلة التي تصون كرامة المواطنين. وحاولنا جاهدين معرفة قيادات تلك الانتفاضة وكان الجواب "سيظهرون لاحقاً"، لكن في الواقع لم يكن هنالك من قيادات موحدة بل احتجاجات عفوية محقة للمواطنين نتيجة معاناة على كافة الأصعدة، وتمّت محاولة استغلال حركتهم من خلال أطراف عديدة تسلّلت إلى صفوفهم وأخذت تحرف مسار الحركة الشعبية، وأخذت تندثر رويداً رويداً، وظهر ذلك جلياً في انفراط عقدهم على أبواب الانتخابات النيابية من خلال ظهور العديد من اللوائح المتنافسة، والتي تأكل من بعضها البعض ولن تحصل على النتيجة المرجوة.
وفي المقلب الآخر تأتي بعض النظريات من قبل مواطنين لم يتلقوا خدمات معينة، من وظائف أو مساعدات أو تقديمات، ليحاسبوا هذا النائب أو ذاك، متناسين أنّ هنالك معركة سياسية بامتياز في هذه الانتخابات النيابية، وكأنّ تقصير بعض النواب لسبب ما، ودون إعفاء البعض منهم من هذا التقصير، يصحّح المسار في هذه المواجهة، وقد فاتهم أنّ الخسارة السياسية هي أفدح بكثير من خسارة وظيفة ما. لهذا لا يمكن ربط هذه الانتخابات بالمصالح الشخصية والتي تعود فيها المنفعة إلى شخصٍ ما بدل التعويل للمصلحة العامة المشتركة.
كذلك يحاول البعض الآخر ذر الرماد في العيون من خلال التحليلات التي تشير إلى خطوة التلاقي بين جميع الأطراف بعد الإنتخابات النيابية في تشكيل حكومة أو غيره من الحوار، والجواب البديهي يكون بأنّ أهمية الانتخابات هي في تحديد الأوزان، وتأكيد حضور الذين يمثّلون قواعدهم الشعبية الحقيقية، وليس المطلوب الدخول في حرب أهلية بعد الانتخابات، وليس المطلوب إلغاء الآخر بل الاعتراف به وفق ما يمثٌل من ثقل شعبي. والحوار الداخلي هو أمر طبيعي لبناء وطن، وليس للقضاء على شريحة معينة.
إنّ كافة الدلائل على أرض الواقع تشير إلى أنّ الصراع في لبنان صراع بين نهجين مختلفين كلياً بالخيارات السياسية: نهج يريد الاعتدال والانفتاح على المجتمع الدولي وإقامة علاقات مميزة مع الدول العربية، وخاصة الخليجبة منها، والتي هي المنفس الاقتصادي للبنانيين، ونهج آخر يريد ربط لبنان بمحور ما يسمى بالممانعة والذي يريد شل حركة لبنان الخارجية، ويعود بنا بالذاكرة إلى ما كان يسمى بتلازم المسارين، ويهدف إلى عزل لبنان عن المجتمع الدولي، وتشديد الحصار الاقتصادي عليه، ومعاداة دول الخليج لأهداف فارسية تاريخية بامتياز.
هذه الانتخابات تحدّد الثقل الشعبي لكل طرف وقدرته التمثيلية، وعليه ينعكس تحديد خيارات لبنان وسياساته الخارجية كذلك المخارج الملائمة لأزماته المالية والاقتصادية، لذلك لا بد من حسن الاختيار.