بعد ستّة أشهر على الانتخابات البرلمانية المبكرة، يرزح العراق تحت وطأة أزمة سياسية مفتوحة، وتمادٍ في خرق القانون والمهل الدستورية، حيث فشل المجلس النيابي الجديد في لمّ شمل أعضائه لانتخاب رئيس جديد للعراق، نتيجة اعتماد حلفاء إيران نهج التعطيل للبلاد، وتطيير نصاب جلسات الانتخاب التي تفرض حضور ثلثي الأعضاء، أي 220 نائباً من 329 عضواً، وذلك بحسب قرار المحكمة الاتحادية، أعلى سلطة قضائية في البلاد، والتي فُسّرت بناءً على طلب الرئيس المنتهية ولايته، برهم صالح، معنى "أغلبية الثلثين" اللّازمة لانتخاب رئيس الجمهورية، فاشترطت نصاب ثلُثي الأعضاء في كلّ الجلسات التي تُعقد لانتخاب الرئيس، فيما كان الاعتقاد سائداً لدى الغالبية النيابية أنّ نصاب الثلثين ملزمٌ في الجلسة الأولى فقط والغالبية المطلقة في الجلسة الثانية، الأمر الذي أفقد التحالف الثلاثي الذي يقوده التيار الصدري حظوظ انتخاب الرئيس، والولوج نحو تشكيل حكومة أغلبية كون التحالف فاز بغالبية أعضاء المجلس.
قانونياً، ليس أمام البرلمان العراقي سوى حتى السادس من نيسان كمهلة أخيرة لانتخاب الرئيس، وفق قرار المحكمة الاتحادية أيضاً. وليس في الدستور ما يحدّد كيفية التعامل مع المسألة إذا جرى تجاوز هذا التاريخ دون انتخاب الرئيس، ما حتّم على رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوس، عقب فشل انعقاد جلسة 26 آذار للقول إنّ: "عدم تحقيق نصاب انتخاب رئيس الجمهورية يحتّم علينا الاستمرار في عقد الجلسات لحين تحقّقه".
ينص الدستور العراقي على وجوب انتخاب رئيس للجمهورية خلال 30 يوماً من التئام البرلمان في جلسته الأولى، حيث كان من المفترض أن تُعقد جلسة الانتخاب في 9 كانون الثاني الفائت، إلّا أنّه، بحكم المشاورات التي كانت جارية في حينه بين الكتل النيابية، جرى تأجيل الجلسة إلى 7 شباط. لكن البلاد لا تزال من دون رئيس جديد، ومن دون رئيس حكومة جديدة، حيث يُلزم الدستور رئيس الجمهورية الجديد تسمّية رئيسٍ للوزراء، يرشّحه التحالف الأكبر عدداً، خلال 15 يوماً من انتخابه رئيساً. ولدى تسميته، تكون أمام رئيس الوزراء المكلّف مهلة شهر لتأليف الحكومة.
جرت العادة في العراق منذ انتخابات العام 2005، أن يتمّ تقاسم السلطة على مبدأ التوافق، وأن تشكّل القوى الشيعية مجتمعةً الكتلة الأكبر في البرلمان التي عليها اختيار رئيس للحكومة، لكن انتفاضة تشرين 2019، أظهرت رفض الشارع العراقي لنظام المحاصصة التوافقي الذي أغرق البلاد بالفساد والعتمة، حيث رفع المنتفضون شعارات مندّدة بالتدخّل الإيراني في شؤون البلاد الداخلية، ورفضهم انتشار السلاح المتفلّت مطالبين بمحاكمة الفاسدين، وبإجراء انتخابات نيابية مبكرة. ومنذ إعلان نتائج تلك الانتخابات في تشرين الأول 2021، والتي خرج فيها التيار الصدري بزعامة رجل الدّين الشيعي، مقتدى الصدر، منتصراَ بأكبرٍ عدد من المقاعد، وخسارة حلفاء إيران وأحزاب الحشد الشعبي الموالية لها الغالبية النيابية، انقسم المجلس النيابي الجديد بين كتلين أساسيتين: تحالف "إنقاذ الوطن" المتشكّل من التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، الفائز الأكبر في الانتخابات التشريعية، والحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، وتكتلٍ سنيٍ كبير من مجموعة أحزاب أبرزها حزب يقوده رئيس البرلمان محمد الحلبوس، ويضم نحو 168 نائباً، تؤيّدهم مجموعة من النواب المستقلين من 40 نائب. في المقابل "الإطار التنسيقي"، المدعوم من إيران، ويضم أحزاباً شيعية بارزة، مثل كتلة "دولة القانون" التي يرأسها نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، وتحالف "الفتح" برئاسة هادي العامري الذي ينضوي تحت لواء فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران. ويتحالف معه الاتحاد الوطني الكردستاني، ويجمع أكثر من مئة نائب.
وفيما يدعم تحالف "إنقاذ وطن" المرشح ريبر أحمد للرئاسة، ويطالب بتشكيل حكومة أغلبية يرأسها جعفر الصدر، سفير العراق لدى لندن، ويؤكد رفضه منطق التقليد التوافقي، دعا الإطار التنسيقي المدعوم من إيران إلى تشكيل حكومة توافقية بين القوى الشيعية الأبرز كما جرت العادة، ويدعم ترشيح الرئيس برهم صالح لولاية جديدة. وأعلن أنّه، ومن أجل تحقيق مطلبه، سوف يقاطع نوابه الذين يفوق عددهم الـ100 جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، ما يلغي حق الكتلة الأكبر عدداً التي منحها الدستور فرصة تشكيل الحكومة، ويعطّل مبدأ ثنائية السلطة والمعارضة التي يقوم عليها النظام البرلماني الديمقراطي.
منهج التعطيل والمقاطعة الذي تمارسه القوى المدعومة من إيران نتيجة خسارتها الأكثرية، وعدم قدرتها تشكيل حكومة بمفردها فإنّها لجأت إلى ابتزاز الأكثرية لفرض شروطها عليها، وهذا ما سبق ان اعتمده حزب الله وحلفاؤه في لبنان منذ عام 2006، لفرض شروطهم على الغالبية السيادية التي انتفضت في 14 آذار 2005، إثر اغتيال رئيس الحكومة، رفيق الحريري، بوجه النظام الأمني اللبناني - السوري، حليف حزب الله وإيران، والتي أوصلت البلاد إلى حالة الانهيار الاقتصادي والسياسي الشاملة.
لا شكّ في أنّ اللّاعب الإيراني الذي اتّهم انتفاضة الشارع العراقي بالعمالة والارتهان للغرب ودول الخليج العربي، يعمل على تصليب مواقف الإطار التنسيقي، ومنع حصول أي اختراق في صفوفه، أو تفلّت أحد أطرافه للانتقال إلى طرف مشروع الغالبية، يحاول الإبقاء على هذا الدور بعيداً من الأضواء على الرغم من الزيارات المكوكية التي قام بها قائد فيلق القدس لقادة الحشد الشعبي، لتوحيد جهودها وتنظيم إدارة المعركة، وكأنّها صراع إرادات عراقية بين منهجين، أو توجّهين، أو رؤيتين، كما يحاول البعض اعتبار تعطيل انتخاب جلسات رئيس الجمهورية على بأنها خلاف كردي – كردي بين الحزبين الرئيسيّين، في حين لا تتردد القيادات العراقية في كشف الأبعاد الخفية لهذه المعركة على أنها تعبير عن صراع إقليمي بين إيران التي تريد العراق ساحة لها معزولةً عن محيطها العربي وتفاوض عليها في فيينا كباقي الملفات الإقليمية من جهة، وبين الخيار الوطني العراقي الاستقلالي الذي يريد إبقاء العراق جزءاً لا يتجزأ من محيطه العربي.
أمام هذه الحالة من الانقسام السياسي، وانسداد الأفق، وتراجع فرص الحلول الممكنة نتيجة تصلب الطرفين في مواقفهما، تتناقض آراء الخبراء حول بين من يعتقد أنّ فشل المجلس النيابي في انتخاب الرئيس قد يُفضي إلى حل البرلمان وإعادة الانتخابات في ظل الصراع الدائر، وبين من يستبعد مثل هذا الخيار لما فيه من تعقيدات قد تنسف كلّ التوافقات الأساسية ويثير احتجاجات قد تِدخل البلاد في حرب أهلية غير محمودة العواقب. وفي هذا السياق يرى بعض الخبراء أنّ "ما حصل، خير مؤشرٍ على أنّ الإرادة الوطنية مسلوبة داخل المنظومة السياسية، ويظهر أيضاً عدم وجود مستقلين بشكل حقيقي"، مشيراً إلى أنّ "التوافق سيكون هو الحل الأول والأخير لتجاوز الأزمات، في ظل غياب الثقافة السياسية الفاهمة لمسألة حكومة الأغلبية الوطنية، والمعارضة الرقابية."
وعن المبادرة التي أعلن عنها زعيم "دولة القانون"، نوري المالكي، في تغريدة له، والتي قال فيها: "أعددنا ورقة مبادرة للخروج من الأزمة بعدما تأكد أنّ التحالف الثلاثي لم يتقدم بمبادرة إيجاد حلول واقعية تضمن العملية السياسية من الانهيار". وأضاف: "اليوم وغداً يبدأ الحوار بين القوى المتحالفة لإنضاج المبادرة". والتي لم يتأخر زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، من الرد عليها في تغريدة له: "لن أتوافق معكم. فالتوافق يعني نهاية البلد. لا للتوافق بكل أشكاله"، وأضاف: "ما تسمّونه بالانسداد السياسي، أهون من التوافق معكم، وأفضل من اقتسام الكعكة معكم، فلا خير في حكومة توافقية محاصصتية".
كما تساءل الصدر، "كيف ستتوافقون مع الكتل وأنتم تتطاولون ضد كل المكونات وكل الشركاء الذين تحاولون كسبهم إلى قسطاطكم (جانبكم)". وخاطب العراقيين قائلاً: "لن أعيدكم لمأساتكم السابقة، وذلك وعد غير مكذوب. فالو وطن لن يخضع للتبعية والاحتلال والتطبيع والمحاصصة، والشعب لن يركع لهم إطلاقاً".
رأت المصادر، أن مبادرة المالكي مؤشر على شروع الإطار التنسيقي في محاولة تفتيت التحالف الثلاثي، والضغط على القوى المتحالفة مع الصدر بشتى الوسائل الترهيبية من خلال ميليشياتها من جهة، والابتزاز السياسي من ترغيب وترهيب تحت مسمّى مبادرة حوارية توافقية. وأشارت المصادر إلى أنّه "ربما أخطأ التحالف الثلاثي في منهجه، عبر إعلان برنامجه الحكومي، والمتضمّن مكافحة الفساد، وحصر السلاح المنفلت، وهو ما ألّب الكتل الأخرى ضده، ويُفترض به، إجراء مناورات سياسية لامتصاص الزخم وردّات الفعل المتوقّعة ضد خطواته"، وقال "إن رفض الصدر المسبق للمبادرة يعني بقاء الانسداد السياسي على حاله، بانتظار الانفراج الإقليمي لا سيٌما الملف النووي الإيراني والحوار الإيراني – السعودي"، وأضاف إن الضربات الصاروخية على أربيل والتي أعلنت إيران مسؤوليتها عنها، تندرج ضمن سياسة التعطيل ورفع سقف التوتر والتهويل على القوى العراقية الاستقلالية، كما أعرب عن قلقه من مواجهة المجهول القادم نتيجة الفشل الذي وصل إليه الجميع.