مثلت خطوة الرئيس سعد الحريري بتعليقه العمل السياسي تعبيراً واضحاً عن عمق التحولات التي طالت الحياة السياسية اللبنانية، وظهر من خلالها أن المكونات التي اجتمعت على الاستقلال من فرنسا عام 1943 لم تنجح في صيانة هذا الاستقلال وصيغة التعايش الطائفي التي نجمت عنه. ولهذا الحدث بُعدان، الأول سياسي يتعلق بتصاعد النفوذ الإيراني الذي يهدد هوية لبنان، والثاني ميثاقي يتعلق بالعلاقات التعاقدية بين الطوائف، والتي خرّبها تحالف عون - حزب الله، إذ ذهب بعيداً في نسف القواعد والأصول القائمة تاريخياً بين اللبنانيين. طبعاً هذا التحالف وصل إلى غاياته بعدما احتلت حالة ميشال عون المساحة التمثيلية الكبرى للمسيحيين، وحالة حزب الله المساحة التمثيلية الكبرى لدى الشيعية. وقد سلّط ذلك الضوء على هشاشة الترتيب الطائفي الذي قامت عليه التوازنات اللبنانية عبر التاريخ. وهو ترتيب يعود إلى الانقسام الحزبي القديم الذي ساد في جبل لبنان وتحوّل إلى انقسام طائفي في عهد الأمير بشير الشهابي، خاصة بعد مُناصرته حملة ابراهيم باشا على تمرد الدروز في جبل العرب، وإمداده بالمقاتلين الموارنة، وانعكاس ذلك على العلاقة بين الدروز والموارنة في الجبل وما تبعها من أحداث، ما أسّس لتصدّر المسألة الطائفية بكل تشعباتها للمشهد السياسي في لبنان حتى يومنا هذا.
لقد تداخلت جملة من العوامل السياسية، الاقتصادية والاجتماعية في تأثيراتها على العلاقة بين الدروز والموارنة، وأدت إلى اندلاع بعض الصراعات والنزاعات التي شهدها جبل لبنان في تاريخه، لكن في مقابل ذلك كان هناك كثير من الإصرار على التلاقي والمصالحة وتأكيد العيش المشترك، والأهم من كل ذلك التمسك بالوطنية اللبنانية. هكذا كانت تسير الأمور في البلد الذي حكمه الأمراء الدروز بنوع من التمرّد على العمق الشمولي، ولاحقاً اكتسب وضعيته الخاصة في شيء من الاختلاف والتمايز نتيجة لتنوعه مع تصاعد دور الموارنة. أما التحدي الذي كان يواجهه ولا يزال فيكمن في موازنته لهذا الاختلاف، وقراءته الواقعية للعلاقات شرقاً وغرباً. لقد وصف كمال جنبلاط، وهو الذي تعلّم في المدارس المسيحية، الفكرة اللبنانية بأنها الوحيدة التي تجرّأت على نظام الخلافة الإسلامية في كل المنطقة. وعلى هذه القاعدة فقد كان لبنان سباقاً في استيراد نموذج الدولة الديمقراطية ذات الطابع البرلماني.
أما الفكرة اللبنانية التي انطلقت مع فخر الدين فقد كانت مدعاة للتجمع والوحدة، على قاعدة تأمين الخصوصية ومواجهة المخاطر الخارجية، لكن بالتوازي واجهتها الكثير من دوافع الانقسام والتفرقة انطلاقاً من الموضوع الطائفي وذلك من أيام العثمانيين حتى اليوم. وهذه النواة الوطنية التي تشكلت في الجبل، أو في لبنان الصغير جذبت إليها سكان لبنان الكبير، أهالي المدن الساحلية الذين تفاعلوا مع العالم واكتسبوا ثقافة انفتاحيه، وأبناء جبل عامل والبقاع والأطراف الذين وجدوا في شخصية لبنان شبهاً لهم يحميهم من تيارات التشدد والتسنين. هكذا توالفت مكونات لبنان الكبير على قضية واحدة مثلتها نزعة التحرّر وإرادة العيش معاً. وهذا النوع من التماثل في القضايا السياسية تجاوز حدّية مخاوف الأقليات ليرسم مشتركات ثقافية أو وجودية سارت بالتوازي مع تداعيات الحرب العالمية الأولى وتراجع الخلافة العثمانية قبل أن يأتي الانتداب ليرسم الحدود السياسية لتقاسم الكيانات في المنطقة.
لبنان الكبير الذي وزّع الامتيازات على الطوائف الكبيرة حوّل الدروز إلى طائفة صغيرة بلا امتيازات، وقد ظنوا أنهم ربحوا الدولة والاستقلال لكنهم اصطدموا بالتمييز وبتهميش دورهم السياسي. لقد عوقب الدروز من مجمل الاحتلالات والاستعمارات التي مرّت على المنطقة. من جمال باشا العثماني إلى إبراهيم باشا والانتداب الفرنسي وصولاً إلى الأنظمة الطائفية في لبنان، والعنصرية في فلسطين المحتلة، ومن النظام العلوي في سوريا. وفي لبنان رغم إسهامهم بالمسار التحرري الاستقلالي فقد خرجوا من صيغة 1943 الميثاقية بأقل الأثمان. ومن مجموع مناصب رئاسية وإدارية، مدنية وعسكرية في الدولة أخذ الدروز منصب رئيس أركان في الجيش، هذا هو السقف الذي يمكن لدرزي لبناني أن يصل إليه في الإدارة اللبنانية. لكن رغم كل ذلك فإن قيادة كمال جنبلاط للدروز لم تأخذهم إلى عنوان النضال من أجل استعادة الحقوق، أو إلى التحريض على الدولة، بل أخذتهم إلى المطالبة بتجاوز الطائفية والاندماج والمساواة مع الآخرين. فَهِم جنبلاط آليات انتقال الشعوب إلى مفهوم الدولة والمشاركة. ومع تجربته في الحركة الوطنية نجح في تشكيل حالة وطنية تضغط باتجاه إلغاء الطائفية. كان الشارع الإسلامي معه في هذه المطالبة، لكن لم يتلقف القادة المسيحيون أهمية أن تطغى على الشارع المسلم توجهات يسارية ولاطائفية. كانت فرصة حقيقية لتحويل لبنان إلى دولة والانتقال من الصيغة المؤقتة للطائفية في دستور 1943، إلى شراكة حقيقية ومستدامة، وإلى عقد وطني يستبدل الصفقة بين الطوائف بالنظام التعددي.
أما العلاقة بين الدروز والشيعة في التاريخ اللبناني الحديث فقد كانت تجتمع على معاناة مشتركة من جراء الصيغة الطائفية التي همّشت أدوارهم فنصّبت على الشيعة طبقة سياسيين مُلحقين بالنظام حتى أواخر السبعينيات، وقد اصطف الدروز والشيعة معاً في حالتين واحدة يسارية من أجل إصلاح النظام، وكان يُقال عن الشيعة أنهم خزان اليسار اللبناني ورافد للحركات العمالية والمطلبية، وثانية ذات توجهات عربية ووحدوية تُسلّم بنهائية الدولة مثلها الالتقاء الموضوعي بين كمال جنبلاط والسيد موسى الصدر.
لا تغيب عن ذاكرة الدروز الواقعة التي يحفظونها عن ذهاب أدهم خنجر، ابن جبل عامل، إلى السويداء وذلك عقب مؤتمر وادي الحجير سعياً إلى التنسيق والتكامل مع دروز الجبل في مواجهة الفرنسيين، ولا تغيب عن ذاكرتهم شهامة سلطان الأطرش الذي قاتل الفرنسيين من أجل تحرير خنجر. لقد حارب دروز الجبل الفرنسيين، ليس لأجلهم بل لأجل السوريين واللبنانيين والعرب، وعندما أنجزوا ثورتهم وضعوا انتصاراتهم في حساب الدولة. لم ينفردوا بصفقات على حساب الآخرين، وقد عُرضت عليهم فكرة الدولة الدرزية ورفضوها. اليوم تنخرط جماعة حزب الله وإيران بمحاولة تطويعهم سياسياً والضغط عليهم لجذبهم إلى حلف الأقليات. أيضاً لا تغيب عن ذاكرة دروز لبنان جملة من المحطات النضالية المشتركة التي جمعتهم مع أخوتهم الشيعة عندما كسروا حصار الضاحية الجنوبية وفتحوا الطريق إلى الجنوب وأسقطوا معاً اتفاق 17 أيار وغيرها من المحطات. كان كمال جنبلاط يسير على رأس التظاهرات العمالية والفلاحية على امتداد الجنوب. أما اليوم فيحتل الذاكرة عدداً من المحطات التي تُؤرق وتُثقل العلاقات بين الطوائف مثل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأحداث 7 و11 أيار والانخراط بالحرب ضد الشعب السوري والدول العربية. ويقع التمثيل السياسي للدروز تحت رحمة كثير من العوامل التي تحددها التوازنات الديمغرافية وموازين القوى، وكلها مُجحفة بحقهم حالياً، وهي تبتعد عن المضامين التي حددها اتفاق الطائف الذي أوصى بحصر الطائفية بالرئاسات والفئة الأولى ومجلس الشيوخ.
بالنتيجة فإن جزءاً لا بأس به من الصراع الذي يدور في المنطقة كان ولا يزال يقع على الدروز بهدف أخذهم إلى حلف الأقليات في مواجهة الأغلبية السنية والعرب عموماً، وقد أدّت إسرائيل هذا الدور في الماضي وتؤدي إيران وجماعتها هذا الدور حالياً. لقد سبق لكمال جنبلاط أن طرح هذا الأمر مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر واتفقا على احتضان المؤسسات السياسية والدينية للدروز باعتبارهم جزءاً متكاملاً مع الواقع الإسلامي والتوحيدي في المنطقة والعالم، وطَرَحه مع القادة في المملكة العربية السعودية الذين حافظوا على أفضل العلاقات مع الموحدين الدروز ومع آل جنبلاط خاصةً.
لقد تجاوز الدروز سلسلة من المحن التي عصفت بهم عبر التاريخ وظلّوا متكاملين مع أصولهم وجذورهم وغير منفصلين عن عمقهم العربي والإسلامي. ولو رفضوا أن يكونوا حرساً لحلف الأقليات الذي قادته إسرائيل في الماضي، إذ ذاك لن يكونوا حرساً لإيران أو للمحور الذي يدعونه بالمقاومة.!