Advertise here

بعد شهر من الحرب على أوكرانيا... ماذا حققت موسكو وماذا تريد واشنطن

30 آذار 2022 14:34:07

عندما أعلن الرئيس الروسي انطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا في 24 شباط الفائت، لم تكن حساباته لتلك المعركة، التي أرادها حرباً خاطفة، كما هي اليوم حيث كان الحديث عن قدرة الجيش الروسي، ثاني أقوى جيش في العالم، في السيطرة خلال أيام معدودة على أوكرانيا، وإخضاع المدن الرئيسية، بما في ذلك العاصمة كييف، لسلطته وبالتالي إسقاط الحكومة، وتنصيب حكومة جديدة تأتمر بتوجّهات الكرملين، وخلع الرئيس فولوديمير زيلينسكي من منصبه، وإعلان حياد أوكرانيا، ونزعها سلاحها.

لكن حسابات الحقل لم تتطابق مع غلال البيدر، فبعد شهر على تلك الحرب بدأت تتباطأ الدافعية القوية للهجوم نحو بعض المدن الرئيسية بما في ذلك العاصمة كييف، وبات الحديث الأكثر شيوعاً أنّ الهجوم الروسي على أوكرانيا لا يسير كما هو مخطّط له، على الرغم من مواصلة موسكو استخدام قوتها الجوية. لكن الهجوم الروسي يواجه مقاومة أوكرانية غير متوقعة تعقّد الأمر أمام الكرملين الذي اعتاد إحراز نجاحات عسكرية فورية، بدءاً من حربه الخاطفة عام 2008 على جورجيا، وضم منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية؛ أو تلك التي ضمّ فيها شبه جزيرة القرم عام 2014، إضافةً إلى تدخّله في سوريا لمنع سقوط بشار الأسد. 

لكن ذلك وبرأي العديد من الخبراء لن يدفع  الرئيس بوتين إلى تغيير أهدافه المعلنة، مثل "حياد أوكرانيا ونزع سلاحها"، وغير المعلنة، "ضم منطقتي لوهانسك ودونيستك، وربطهما بشبه جزيرة القرم". ولم يعد الكرملين يراهن على الإطاحة بالرئيس الأوكراني، فيما يرى خبراء آخرون أنّه وأمام الصعوبات التي يواجهها الجيش الروسي على الأرض، وسلسلة العقوبات المفروضة على روسيا، فإنّ بوتين، "يتّجه أكثر فأكثر نحو حربٍ تقوم على التدمير والعقاب".

في السياق عينه تقول الباحثة في مركز كارنيغي في موسكو، تاتيانا ستانوفايا، إنّ "السؤال ليس في ما يريد بوتين الحصول عليه، ولكن كيف وبأي ثمن"، وتضيف: "الأمر سيستغرق وقتاً، وسيسبّب مزيداً من المآسي، لكنه مقتنع بأنه ليس لديه خيار، وأنّه مكلف بمهمة تاريخية تتمثل في استعادة النفوذ الروسي".

في المقلب الآخر، ومن وجهة النظر الغربية في واشنطن وأوروبا، فإنّ القدرات العسكرية الروسية جعلت من خيار منع الهجوم على أوكرانيا عسكرياً أمراً مكلفاً، لذلك قرّرت واشنطن وحلفاؤها عدم منع غزوها، وعدم الدفاع عنها عسكرياً، واتّحدت تحت شعار معاقبة روسيا عبر حزمة منسقة من العقوبات التي تقوّض مكتسبات روسيا خلال العقدين الماضيين. فمع بداية الحرب بدأت العقوبات الغربية تأخذ مساراً أكثر جدية وفاعلية من أي مرحلة سابقة، حيث تستهدف القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد الروسي من خلال منع وصولها إلى التقنيات والأسواق الرئيسية، بما يضمن إضعاف القاعدة الاقتصادية لروسيا وقدرتها على التحديث. وإضافة للعقوبات الاقتصادية الاستراتيجية، أرسلت دول الناتو شحنات أسلحة مكثفة لأوكرانيا، بما يضمن استنزاف روسيا في الحرب، وإرهاق جيشها واقتصادها على حدٍ سواء، وهذا ما نجحت به كييف.
 
أثناء الحشود الروسية على حدود أوكرانيا، وخلال المناورة العسكرية المشتركة مع بيلاروسيا، تعامل الكثير من الخبراء مع المعلومات التي أعلنتها واشنطن باعتبارها مواقف سياسية، ولم يُعِر الكثير من المسؤولين، بمن فيهم الأوروبيين، (أهمية كافية) لتلك المعلومات التي أشارت الى أنّ الجيش الروسي سوف يغزو كامل الأراضي الأوكرانية، وسيجتاح العاصمة كييف، باعتبارها تهويلاً سياسياً. إلّا أنّ مصداقية المعلومة الأميركية اختلفت اختلافاً نوعياً عن لحظة بدء الهجوم العسكري، وأصبحت تستطيع رسم معالم الطريق الدولي مجدداً. وما شهدناه في القمم الثلاث: قمة الناتو، والقمة الأوروبية، وقمة الدول السبعة، هو مؤشر إلى إعادة رسم الخريطة السياسية والاقتصادية والعسكرية للغرب بكامل طاقاته، واصطفافٌ ينذر بمواجهة مع روسيا جرّاء غزوها لأي دولة غير أوكرانيا.

وبعد شهرٍ على العملية العسكرية الروسية، وعلى إثر تراجع الاندفاعة الأساسية للهجوم الأول، تبرز نتائج أولية تبيّن الرابح والخاسر في تلك المعركة. فالحكومة الأوكرانية، والتي حافظت على تماسكها، ونجحت في شد أزر المقاومة الشعبية والعسكرية، وحالت دون سقوط العاصمة كييف وأيٍ من المدن الاستراتيجية والأساسية، خاركيف ومايروبول، (وأثبت) الجيش الأوكراني الذي لم يكن يعوّل عليه، بأنه استطاع، وبتسليح خفيف مضاد للدروع ومضاد للطائرات، أن يوقف الهجوم الروسي، كما استطاع أيضاً إجبار الجيش الروسي على التموضع الدفاعي، ما يعني أن المعركة دخلت في طورٍ جديد، وباتت أمام موازين قوى ذات خصائص جديدة، بحيث يمكن القول أنّ تموضعاً عسكرياً جديداً بدأ يتشكل في أوكرانيا، فالجيش الروسي ينسحب من محيط المدن، والجيش الأوكراني يتحوٌل من الدفاع إلى الهجوم التكتيكي.

الروسي يستعيض عن إسقاط المدن بالقصف الصاروخي، كاستخدام صاروخ "كينجر" الفرط صوتي، مقابل تماسك الموقف الميداني الأوكراني العسكري والمجتمعي وعلى المستوى السياسي. وهذا يعني أن الجيش الروسي دخل مرحلة حرب الاستنزاف على الجبهات الدائرية، وعلى مدى الجبهات المختلفة الممتدة لآلاف الكيلومترات التي تقاتل عليها، سواءً في الأقاليم الشرقية أو في محيط المدن الكبرى. وهذه الحالة ليست سهلة وبسيطة على الجيش الروسي.
 
على المستوى السياسي، خسرت روسيا دوليا أياً تكن حصيلة عمليتها في أوكرانيا، خاصة عندما يُتّخذ قرار بطردها من مجموعة العشرين (G20) بعد طردها من مجموعة الدول الثماني التي أصبحت تسمّى مجموعة الدول السبع (G7)، إثر اجتياح روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، والسيطرة عليها، فضلاً عن أنّ الدبلوماسية الروسية فقدت قدرتها التأثيرية على أي من الملفات الدولية، والتي لا ترتبط بالأزمة الأوكرانية.

وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى مسألتين تبيّنان حجم الخسارة السياسية لموسكو، حيث اضطرت روسيا إلى الجلوس على طاولة المفاوضات مع الجانب الأوكراني بعد أسبوعين من الغزو، لعدم قدرتها تحقيق أي اختراق عسكري نوعي، وفشلها في ترهيب الدول الأوروبية، أو جلبها للجلوس على طاولة المفاوضات معها. كما أنها لم تحقّق أي إنجاز نوعي يستدعي تدخل الجانب الأميركي للتفاوض معه على أمن أوروبا مثلاً، كما كان يرغب سيّد الكرملين.

ومن ناحية أخرى فإن العملية الروسية ضد أوكرانيا ستترك آثاراً جسيمة على وحدة الكنيسة الأرثوذوكسية التي دخلت في مرحلة من الانقسام العمودي الحاد، بعد أن أيّدت الكنيسة الروسية العملية العسكرية ضد أوكرانيا الأرثوذوكسية، وحيث تقف الكنيسة الأوكرانية إلى جانب شعبها، لا بل فإنّ الرئيس الأوكراني زيلينسكي وجّه دعوة رسمية للفاتيكان ولرأس الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرانسيس، لزيارة بلاده في خطوة هي الأولى من نوعها، حيث تعتبر كييف مهد الكنيسة الأرثوذوكسية قبل انتقالها إلى روسيا.

 وقد يمتد هذا الانقسام إلى دول أوروبا الشرقية، ما يؤدي ليس إلى إضعاف نفوذ موسكو داخل الكنيسة الأرثوذوكسية فقط، بل إلى إضعاف دور الكنيسة الأرثوذوكسية في العالم.   
  
من الناحية الاقتصادية، فإنّ أوروبا التي تدفع الآن ثمن اعتمادها على الغاز والنفط الروسيين، بدأت تتحول نحو الأسواق البديلة حيث لن يكون ميزان القوة في مسألة الطاقة لمصلحة أوروبا، وهو بالطبع ليس لمصلحة روسيا أيضاً بعد فرض العقوبات عليها، لا بل أصبح هذا الملف بيد واشنطن، التي باتت تشكّل العنصر المقرّر في إدارتها لميزان الطاقة الدولي جراء تأثيرها على الأطراف الفاعلة فيه سواء كانت الأطراف العربية، أو الصين، أو فنزويلا، وإيران إذا نجحت مفاوضات فيينا وجرى رفع العقوبات عنها.

على الرغم من ذلك يصعب التنبؤ بما سيؤول إليه الوضع الاقتصادي العالمي، حيث تتداخل الأزمات والملفات والقضايا الملحة فيما بينها، فملف الطاقة مرتبط بملف الأمن الغذائي، وبحركة المواصلات البحرية، وبالأسواق الدولية المعقّدة، إلّا أنّه يمكننا القول أنّ روسيا وأوروبا يعانيان الخسارة الكبرى في هذا الموضوع، فيما تستطيع أميركا إعادة صياغة ميزان القوة المتعلق بالأمن الغذائي والطاقة بطريقة أكثر استفراداً، وفق وجهة نظرها، وهذا سيؤثر على الوضع العربي، لا سيّما الدول المنتِجة للنفط (المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات المتحدة، والجزائر)، كما سيؤثر على إيران وعلى الصين باعتبارها المستهلك الأول في هذا الملف، كما سيؤثر على الأمن الغذائي لمصر والعراق ولبنان والسودان.
 
بعد مرور شهر على بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، يبدو أنّه من المبكر البحث في مستقبل هذه الحرب. فمن تابع تحولات الأزمة السورية لم يتوقع أن تطول إلى هذا الوقت، فكيف الحال بالأزمة الأوكرانية الناشئة، والتي تمتد على مساحة نصف مليون كلم مربع هي المساحة الفاصلة بين روسيا والغرب الأوروبي، وعلى تماس مع حلف الناتو، ومع الاتحاد الأوروبي، وعلى صدامٍ معلن مع بريطانيا الجديدة التي تتصدر الواجهة في الصراع مع روسيا القيصرية بشكلها الجديد، وحيث لم يُخفِ الرئيس الأميركي، جو بايدن، رغبته بإزاحة نظيره الروسي فلاديمير بوتين عن حكم روسيا، واصفاً إياه بـ"الجزّار"، فقال في خطاب ألقاه في العاصمة البولندية وارسو، حيث التقى مسؤولين أوروبيين ولاجئين أوكرانيين: "بحقّ الله، لا يمكن لهذا الرجل البقاء في السلطة" ، واصفاً المقاومة الأوكرانية للقوات الروسية بأنها جزءٌ من "معركة عظيمة من أجل الحرية"، داعياً العالم إلى الاستعداد "لمعركة طويلة"، محذّراً القوات الروسية من "التقدم إنشاً واحداً داخل أراضي حلف شمال الأطلسي"، وواصفاً النزاع في أوكرانيا بأنّه "فشل استراتيجي" لروسيا.
فالشهر الأول من الحرب على أوكرانيا يبيّن أنّ واشنطن تريد إغراق موسكو في حقل كبير من الوحول على مساحة أوكرانيا، وتريد أن تستثمر في هذا الحقل لترتيب المسرح الدولي وفق الأولوية الأميركية، والأحادية الأميركية، والهيمنة الأميركية على كافة الملفات.