Advertise here

الفقر

25 آذار 2022 17:44:01

كثيرةٌ هيَ المشكلاتُ الاجتماعيّةُ الّتي يرزحُ تحتَها المجتمعُ كالطّلاقِ والخيانةِ والسّرقةِ  والزّنى والرّشوةِ والكذبِ والفقرِ والبطالةِ، وأبرزُ هذهِ المشكلاتِ الفقرُ وأشدُّها فتكًا بأواصرِ المجتمعِ. فالفقرُ داءٌ عضالٌ يفرضُ على صاحبِه حزامًا منَ البؤسِ والشّقاءِ والعوَزِ فيكبّلُ مسعاهُ ويهدُّ قواه ويهدِمُ ما بناهُ وينخرُ في المجتمعِ ويقوّضُ أسَّه ويدمّرُ أركانَه، ويجرفُ أبناءَه نحوَ التّهلكةِ والانهيارِ الخلقيِّ والعمليِّ والعائليِّ والثّقافيِّ. فما هيَ انعكاساتُ هذهِ الظّاهرةِ السّلبيّةِ على الفردِ والمجتمعِ؟ وكيفَ يمكنُ محاربتُها إنقاذًا للكرامةِ الإنسانيّةِ؟

وردَ قولٌ للإمامِ علي بن أبي طالب (ر):" لو كانَ الفقرُ رجلاً لقتلْته"، ما يعني أنَّ الفقرَ مجرمٌ بحقِّ الفردِ والمجتمعِ على السّواءِ، وله انعكاساتٌ خطيرةٌ ومؤذيةٌ. فهوَ يقيّدُ السّباعَ يكفُّ الطّموحَ ويضعفُ العزيمةَ والإرادةَ ويزعزعُ الثّقةَ بالنّفسِ وبالآخرينَ فتتكسّرُ الأنا في ذواتِهم. فالفقرُ يحرمُ الأطفالَ منْ كسبِ العلمِ ودخولِ المدارسِ، ويقتلُ طموحَ الشّبابِ فيتركونَ دراستَهم عنوةً ليدخلوا معتركَ الحياةِ ويكونوا عبيدًا لأسيادِهم ولأربابِ عملِهم الّذينَ يغذّون أجسادَهم بدماءِ عمّالِهم المساكينِ وينيرونَ عقولَهم ببناتِ أفكارِ الفقراءِ ويستمدّونَ قوّتَهم بامتصاصِ عزيمةِ الفقراءِ فيخلقونَ في الفقراءِ مشاعرَ الحرمانِ والبؤسِ والاضطرابِ النّفسيِّ كالتّوتّر الدّائمِ والقلقِ والاكتئابِ والضّيقِ، ما يسبّب بانعكاساتٍ على المجتمعِ منِ انتشارِ الفوضى وتفشّي السّرقاتِ والانحرافِ والإدمانِ وارتفاعِ نسبةِ الانتحارِ تخلّصًا منْ وجودِهم المشينِ ووضعِهم المزري وظرفِهم المتردّي، حيثُ لا يقوى ربُّ البيتِ على تأمينِ حاجيّاتِ الأسرةِ فيجوعُ الأبناءُ وتُحرم النّساءُ منْ حقوقِهنّ ويحتارُ ربُّ البيتِ في أمرِه " ما باليدِّ حيلةٌ"، فيلوذُ إلى التّفلّتِ منْ مسؤوليّاتِه ما يسبّبُ الطّلاقَ أوِ الانتحارَ أو القيامَ بالأعمالِ غيرِ المشروعةِ، وهكذا حالُ المرأةِ والطّفلِ. " فما افتقرَ به فقيرٌ إلّا بما اغتنى به غنيٌّ".

كما يسبّبُ الفقرُ التّفكّكَ الأسريَّ  كالطّلاقِ واندثارِ الأسر برمّتِها والخيانةِ الزّوجيّةِ كسْباً للمالِ أو تفلّتًا منْ سوءِ الحالِ، وزيادةِ نسبةِ الأميّةِ والجهلِ والرّذائلِ والإجرامِ.

لكنّ الفقرَ آفةٌ يمكنُ معالجتُها بتحقيقِ الانماءِ الشّاملِ والتّنميةِ المستدامةِ وحثِّ رجالِ الأعمالِ والرّأسماليّينَ على تأسيسِ مشاريعَ جديدةٍ، وتشجيعِ الاستثماراتِ، فالفقرُ يترصّدُ بابَ الصّنائعيِّ ولا يدخلُه لأنّ مالكَ صنعةٍ مالكُ قلعةٍ، لذا يجبُ تأمينُ فرصَ عملٍ للجميعِ وتنظيمُ المؤسّساتِ العامّةِ ومحاربةُ الفسادِ لأنّنا بالعملِ نحمي أنفسَنا منَ الفقرِ والفاقّةِ، فالعملُ يقتلُ ثلاثَ آفاتٍ المللَ والكسلَ والفقرَ، فالمرءُ يساهمُ إسهامًا مباشرًا في تغيير واقعِه المريرِ وذلكَ بالاهتمامِ والتّركيزِ وحسن التّدبيرِ وامتلاكِ الوعي لاقتحامِ أنواءِ الحياةِ ومشقّاتِها، " الرّأسمال" كلمة مؤلّفةٌ من قسمينِ: رأسٍ يفكّرُ ويخطّطُ ويدبّرُ، ومالٍ ينفّذُ المشاريعَ ويحقّقُ الطّموحاتِ. فما معناهُ أنَّ امتلاكَ التّفكيرِ السّديدِ والتّخطيطِ السّليمِ مسلكٌ للحصولِ على المالِ والثّروةِ. فكمْ منْ فقيرٍ غذا غنيًّا، ثريًّا بفضلِ علمِه ووعيه، وكمْ من غنيٍّ أصبحَ فقيرًا بائسًا بسببِ عدمِ تدبيرِهِ وتبذيرِه وسوءِ حظّه. " ناموا وبسطُهم حريرٌ، استفاقوا وبسطُهم ترابٌ"، فقدْ يربحُ الفقيرُ ورقةَ يناصيبٍ ويصبحُ ذا ثروةٍ، لكنَّ ثروتَه قدْ تكونُ سببَ نقمتِه وجبروتِه وبطشِه، فهذا الأميرُ علاّقة خيرُ مثالٍ ظلمَ رعيّتَه وشعبَه بعدَ أنِ استولى على الحكمِ لأنَّه لم يعتدْ على الثّروةِ والجاهِ، فقدْ كانَ يخافُ الفقرَ مجدّدًا فتراهُ يكدّسُ الأموالَ." عِزٌّ بعدَ فاقة للأمير علاّقة." وقدْ تكونُ الحربُ هيَ السّببَ في الفقرِ والتّشرّدِ والجوعِ والدّمارِ والخرابِ ونكبةِ الشّعوبِ. قيلَ لزوجةِ الملكِ لويس الفرنسيّ إنَّ شعبَك ينوءُ تحتَ نيرِ الجوعِ والحرمانِ فهوَ يتضوّرُ جوعًا ولا يملكُ ثمنَ رغيفِ خبزٍ فأجابَتْهم " ليأكلوا الكعكَ"، فكيفَ لشعبٍ أنْ يشتريَ الكعكَ الأغلى سعرًا، وهوَ عاجزٌ عنْ شراءِ الخبزِ؟! ما يعني أنّ الأغنياءَ لا يشعرونَ بمعاناةِ الفقراءِ وألمِهم، ولا يأبهونَ بجوعِ فقيرٍ وأنينِ طفلٍ رضيعٍ، ولا يحفلونَ برؤيةِ متسوّلٍ على عطفةِ كلِّ طريقٍ. فها هوَ الشّاعرُ أبو العتاهية ينقلُ للخليفةِ أوضاعَ الشّعبِ المتردّية في قصيدتِه " لم يبقَ إلّا عظامٌ بالية"، ويلفتُ نظرَ الخليفةِ المتربّعِ على عرشِ السّلطةِ أن ينظرَ بقلبِه تحتَه إلى رجلٍ مقهورٍ وامرأةٍ ثكلى وولدٍ جائعٍ بائسٍ، عارٍ صدرُه، محطّمٍ،  مسلوبٍ الحرّيّةَ، فأصحابُ السّلطةِ في كثيرٍ منَ الأحيانِ يكونونَ السّببَ في فقرِ الشّعوبِ كالملكِ نيرون ملك روما، الّذي أحرقها بمن وما فيها وهو يقف على شرفة قصره وروما أمامه تحترق.

لكنْ، منْ جهةٍ ثانيةٍ الفقرُ هوَ مفجّرُ العبقريّةِ فتراها تتفتّقُ منْ رحمِ المعاناةِ، فالطّموحُ يتفجّرُ منْ صدرِ الشّقاءِ، والأحلامُ تجدُ طريقَها مفتّتةً صخرةَ الواقعِ. فثورةُ المليونِ شهيدٍ في الجزائرِ وجدَتْ طريقًا إلى الحرّيّةِ والاستقلالِ، ومسيرةُ الملحِ لمهاتماغاندي في الهندِ سطّرَتْ للمجدِ حكاياتٍ وللبطولةِ انتصاراتٍ وللثّورةِ على المجاعاتِ إنقاذًا للكرامةِ الإنسانيّةِ وسبيلًا إلى العدالةِ والمساواةِ. وبناءً على ما ذكرَ يمكنُ محاربةُ الفقرِ بسيفِ العملِ والكدِّ والجهدِ والعطاءِ والابتعادِ عنِ التّقاعسِ وعنِ الاتّكالِ على الآخرينَ " الحياةُ بلا عملٍ عبءٌ لا يحتملُ"، وبزادِ  الثّقةِ والعزيمةِ والإرادةِ والثّباتِ " فالثّباتُ سرُّ النّجاح"، بفيضِ العقلِ والوعي والتّخطيطِ السّليمِ، وبعدمِ التّأفّفِ والتّذمّرِ والشّكوى وبالسّعي دائمًا لتطويرِ الذّاتِ والمجتمعِ، وبالمحافظةِ على الأعمالِ بإتقانِها والتّفاني في القيامِ بِها بضميرٍ حيٍّ وعزيمةٍ لا تحدُّ وإرادةٍ لا تردُّ، وبالسّعي للارتقاءِ الوظيفيِّ وبتأمينِ فرصِ العملِ للشّبابِ الّذينَ همُ عصبُ الحياةِ، وهمْ ثروةٌ وثورةٌ بحسبِ ما أشارَ ميخائيل نعيمة في كتابِه "دروب"، وبمراقبةِ الوظائفِ والأعمالِ والمؤسّساتِ العامّةِ والخاصّةِ والحرّةِ ومتابعةِ مسارِها ومصيرِها منعًا للفسادِ والرّشوةِ، والسّرقةِ والمحسوبيّاتِ بتحديدِ الأهدافِ وإقامةِ المشاريعِ البنّاءةِ، والمدروسةِ، وإعطاءِ القروضِ الصّغيرةِ طويلةِ الأمدِ لذوي الأعمالِ الحرّةِ ولفتحِ مصانعَ ومعاملَ ومشاغلَ كمشغلِ خياطةٍ ومصنعِ ملابسَ قطنيّةٍ ومعملَ تجفيفِ فواكهٍ وغيرِها منَ الصّناعاتِ الّتي تفتحُ مجالًا للفقراءِ أنْ يعملوا ويحقّقوا طموحاتِهم وتحسينِ أحوالِهم وظروفِهم المادّيّة والمعنويّةِ، لأنَّ الفقرَ المادّيَّ ينعكسُ تحطيمًا على نفسيّةِ صاحبِه فيدمّرُ كيانَه ويجعلُه فريسةَ البطالةِ والفراغِ " رأسُ البطّالِ معملُ الشّيطانِ". فبمثلِ هذه الحلولِ نكافحُ الفقر وننقذُ الكرامةَ الإنسانيّةَ منَ التّشوّهِ، وصدقَ قولَه تعالى " رزقُكم في السّماءِ وما توعدون."

ختامًا، إنَّ الفقرَ مشكلةٌ اجتماعيّةٌ تتفاقمُ يومًا بعدَ يومٍ، فلا مناصَ منْها، لأنّها ظاهرةٌ منتشرةٌ في أصقاعِ الأرضِ وهيَ أبديّةٌ وأزليّةٌ، فقدْ وردَ في القرآنِ الكريمِ " لقد جعلناكم طبقاتٍ لتتعارفوا"، فالتّفاوتُ الطّبقيُّ موجودٌ في المجتمعاتِ وضروريٌّ  لتخدمَ البشريّةَ بعضَها بعضًا، فلولاهُ لما وجدْنا الخادمَ والمخدومَ، المستخدِمَ والمستخدَمَ، الفقيرَ والأميرَ ، العبدَ والسّيّدَ، ولما وجدْنا التّراتبيّةَ في الوظائفِ منَ الدّكتورِ إلى عاملِ التّنظيفاتِ، ومنَ العميدِ إلى الجنديِّ، وما نعنيه أنَّ الفقرَ حالةٌ طبيعيّة وضروريّةٌ، فإذا كانَ الجميعُ بحالةِ اكتفاءٍ فتتكدّسُ النّفاياتُ على الطّرقاتِ وفي المنازلِ ولا تجدُ مَنْ يجمعُها ويندثرُ الوطنُ ولا تجدُ من يحميه وتتلاشى القِوى، فها هو الفقرُ يجعلُ العاملَ يتفانى ليخدمَ وظيفتَه ويكسبَ رضى سيّدِه. ومن جهّةٍ ثانية أنّ الكثيرَ منَ الفقراءِ همُ المسؤولونَ عنْ فقرِهم وسوءِ حالِهم لأنَّهم لا يستغلّونَ الفرصَ الّتي قد تصادفُهم في الحياةِ نتيجةَ تقاعسِهم وإهمالِهم واتّكالِهم على غيرِهم. " ربِّ لا تجعلني غنيًّا فأنساك ولا فقيرًا فأتحيّر." فهلْ ستستفيقُ الدّولةُ منْ سباتِها العميقِ وتضعُ هذهِ المعضلةَ في سلّمِ أولويّاتِها؟ فهل سيشعرُ الأغنياءُ بما يقاسيه الفقراءُ فيمدّونَ لهم يدَ العونِ ويساهمونَ في إنقاذِهم منْ براثنِ الفقرِ وبؤرةِ الجهلِ والانحطاطِ قبلَ فواتِ الأوانِ؟ فهلْ منْ يسمعُ ومَنْ يعي؟

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".