يمرّ السنّة في لبنان في أصعب المراحل وأدقها. ممارستهم السياسية من قبل، والحالة الشعبية حالياً تشير إلى أنهم يجْنون على أنفسهم. حتى جمهور الرئيس سعد الحريري وبعض المحيطين به قد جنوا عليه وعلى أنفسهم. خروج السنّة من المأزق والتشرذم يرتبط بتوفر الإدارة الرشيدة وحسنها. وقد تكون متوفرة مع الإقدام في ما أعلنه الرئيس فؤاد السنيورة: ضرورة الانخراط في الاستحقاق الانتخابي، وبعد السعي في تشكيل لوائح وعقد تحالفات. ويبقى الأمر مرتبطًا بالتركيز على استيعاب الحملات العنيفة التي يتعرض لها السنيورة وسواه من المرشحين من بيئة تيار المستقبل وجمهوره، الغارق في حال الندب واتهام من أقدم بالخيانة.
وبنظرة بسيطة وهادئة وموضوعية يفترض بهذا الجمهور أن يذهب إلى دعم حركة السنيورة وترشيحاته، لأن السياسة لا يمكن أن ترتبط بشخص واحد، ولأن ما يقوم به السنيورة يفترض الحفاظ على واقع سياسي لطائفة أساسية في لبنان، وعدم ذوبانها وتشتيتها على أرصفة القوى الأخرى.
الوفاء لآل الحريري
غريبة طريقة تعاطي المستقبل مع الوضع السياسي ومع السنيورة، الذي يتعرض لحملات تهشيم أو محاولات تطويق وحصار. وهنا لا بد من الإشارة إلى جملة نقاط مهمّة. فخلال غياب سعد الحريري عن لبنان بين العامين 2011 و2014، حصل تواصل من شخصيات حريرية ومستقبلية مع السعودية، للبحث في مصير الحريري، وإذا كان سيعود أو سيتم تحضير شخصية أخرى بدلاً منه. حينها حصل تواصل سعودي مع السنيورة، لسؤاله عن رأيه بإمكان أن يحلّ شخص آخر من آل الحريري مكان سعد، لكن السنيورة رفض، وعمل بكل قوته لإسقاط مثل هذا الخيار.
وفي مرحلة ثانية، وتحديداً بعد إعلان الحريري عزوفه عن الترشح وتعليق عمله السياسي، تواصلت شخصيات من أقرب المقربين إليه ومن أركان تيار المستقبل، مع جهات عربية وخليجية لوراثة سعد. وهؤلاء من الذين يقودون اليوم حملة الوفاء والتخوين، فيما كان موقف السنيورة واضحًا في مؤتمر صحافي عقده، وقال إنه لا يريد وراثة أحد، وكان قد نسّق مع الحريري خطوته ووضعه في جو ما يقوم به.
كانت كل تحركات السنيورة تشير إلى تعزيز وضع سعد، منذ توجيه النصيحة له بعدم السير بالتسوية الرئاسية، إلى تشكيل مجلس رؤساء الحكومة السابقين. تصرفات المستقبل تجاه السنيورة تعتبر السبب الأساسي وبمفعول رجعي للجفاء الخليجي تجاه تيار المستقبل خصوصًا ولبنان عموماً. وهنا تعتبر مصادر متابعة أن مشكلة السعودية مع اللبنانيين بأنهم يطعنون بعضهم البعض، مقابل إرضاء حزب الله ومصالحهم الخاصة. وقد تم إبلاغ تيار المستقبل منذ سنوات بوقف النزيف في العلاقة مع القوات، ولكن لم تحصل أي استجابة، حتى وصفت تصرّفات الحريري بالطفولية. وتم إبلاغ جميع اللبنانيين بأن هذا الجفاء بين الحلفاء هو سبب جفاء السعودية للبنان. وتعتبر المصادر أن السعودية لا يمكنها أن تكون عامل مستنهض للقوى السياسية، ولا أن تكون شيخ صلح بين حلفاء مفترضين. بل عليهم أن يعرفوا مصلحتهم وما يجب فعله. وهنا لا مجال للحرد السياسي ولا مجال للدعوة إلى المقاطعة التي تصب في صالح حزب الله.
وتكشف المصادر أنه عُرض على فؤاد السنيورة من جهات خليجية وعربية أن يتزعم السنّة في لبنان، وأن يكون وريثاً لسعد الحريري، لكنه رفض بشكل قاطع. وتؤكد المصادر أن هذا الأمر عُرض أربع مرات على السنيورة، وكان جوابه الرفض، قائلاً: "أنا وفيّ لآل الحريري ولا يمكنني أن أكون سبباً في غيابهم ولا أطمح لوراثتهم".
ضرورة حركة السنيورة
وما أقدم عليه السنيورة لا بد أن يستكمل. صحيح أن التوق للتغيير لدى الناس يحتاج إلى شخصيات ووجوه جديدة لخوض المعترك السياسي. ولكن الأمر الواقع فرض نفسه، والمواجهة أصبحت قائمة في ظل تشتت قوى التغيير وقوى المجتمع المدني. واللعبة السياسية عادت إلى قواعدها التقليدية. لذا لا بد من الاستمرار.
وتتخذ المعركة الانتخابية عنوانًا واضحًا: انقسام وخلاف بين معسكرين سياسيين عريضين: واحد يوالي حزب الله وإيران، وآخر ضد الحزب عينه ومشروعه. وطالما أن هذا هو الصراع الأساسي في الاستحقاق، لا بد من الخيار وفق قواعده. ولا يمكن الغرق لا في الحلم ولا في الوهم. والمقاطعة الانتخابية هنا تخدم حزب الله، وسائر الطفيليات التي تتوهم لصوتها صدىً وأثرًا.
ضرورة التحالفات
وهنا يتوجب على السنيورة ومن معه، وعلى الساعين إلى خوض الاستحقاق الانتخابي التنبه لمسألة مركزية: حسن الإدارة التي تبدأ باستيعاب الحملات بإصرار وعدم التراجع. والانتقال إلى خطة هجومية على الصعيد الشعبي، بتحفيز الناس سياسيًا ومخاطبتهم مباشرة. والأهم هو الذهاب إلى نسج تحالفات سياسية شاملة أو موضوعية مع قوى يمكن الالتقاء معها سياسيًا.
فكما يفعل حزب الله في الجمع بين حلفائه، ولو اقتضى ذلك الجمع بين حركة أمل والتيار العوني، لا بد من إقدام السنّة على خطوة مماثلة: التحالف مع الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. وما دام ما قيل بين التيار العوني وحركة أمل، لم يقله مالك بالخمرة، فلا داعي لأن يركز السنّة على حسابات ضيقة ومصلحية أو شخصية، تتعلق برفض التحالف مع القوات. فهناك جو سنّي عارم يتعاطف مع القوات، ويلتقي معها سياسيًا. ويجدر بالسنّة أن يقوموا بدورهم المركزي كطائفة مؤسسة وكيانية في لبنان. وذلك بسعيهم لاستقطاب القوى الأخرى، لا أن يكونوا ملحقين بها، لا بالقوات ولا بالاشتراكي مثلًا. فكيف بحزب الله أو بحلفائه والنظام السوري؟!
السياسة بين الموقف والمال
ويحظى السنيورة بدعم شعبي سنيًا. وهناك قيادات مستقبلية متعاطفة معه إلى أقصى الحدود، وتتصرف مع حركته بإيجابية. وهو حظي بدعم سعودي تجسد بإشارات واضحة باركت حركته، إلى جانب تشكيله مروحة واسعة من الاتصالات مع جهات عربية وغربية.
وهنا لا بد من الانتقال إلى حسن الإدارة، بعدم الاستئثار بالرأي والشخصانية، والاتجاه نحو المأسسة، لأن هذا وحده هو الذي يؤمن حسن الإدارة والاستمرار.
صحيح أن المعركة الانتخابية في لبنان تحتاج إلى المال والخدمات. لكن لا يمكن الاستسلام إلى هذا المبدأ. ففي التجربة اللبنانية وغيرها من التجارب، تشكلت ظواهر وحركات أساسية بلا قدرات مالية. وهذا ما يمكن الاتكاء عليه. فالسياسة في لبنان قوامها عناصر ثلاثة: مال وخدمات وموقف.
واليوم لا بد من الانطلاق من الموقف، التركيز عليه وتثبيته وتكريسه وإعلانه بوضوح، وتعزيزه سياسيًا وشعبيًا، لتمكين الناس من الالتفاف على عنوان واضح للمعركة الانتخابية، وعلى أساسها تنطلق المسيرة. وبعدها يعود النقاش في مسألة التمويل وغيره. والأهم هو عدم الركون والارتهان في العمل والموقف السياسيين لعنصر المال. أو أن يكون كل شيئ أسيرًا ومكبلًا في انتظار ورود المال. فالمال يجعل متصدري الحركة السياسية موظفين، لا زعماء أو قادة سياسيين.