عندما أقرّ مجلس الوزراء منع تصدير السلع الغذائية بأشكالها الأولية والمصنّعة، لم يبن قراره على دراسة، إنما كان هدفه احترازياً منعاً لتهريب السلع. لكن ما تبيّن حتى الآن، بعد اجتماعات عدّة عقدت مع مستوردي الغذاء وأصحاب الصناعات الغذائية، أنه لا إمكانية لإعداد دراسة عن حاجات السوق، ولا قدرة للسيطرة على الأسعار. لبنان نموذج عن فوضى الأمن الغذائي.
عقد اجتماع في وزارة الصناعة دُعيت إليه نقابة مستوردي الصناعات الغذائية ونقابة أصحاب الصناعات الغذائية، لمناقشة قرار مجلس الوزراء القاضي بمنع تصدير السلع الغذائية. الاجتماع سبقته اجتماعات أخرى ناقشت العنوان نفسه بكل تفرعاته المتعلقة بحاجات السوق المحلية وكيفية تأمينها، وحاجات مصانع الغذاء وعقودها مع الخارج، وتقلبات الأسعار العالمية والمحلية. وقد أفضت الاجتماعات إلى رفع نحو 60% من السلع التي وردت في قرار المنع الصادر عن مجلس الوزراء في 10 آذار الجاري. إذ تبيّن في الاجتماعات أن المشكلة الأساسية تكمن في القمح والسلع التي تتدرّج منه، والسكّر بدرجة ثانية والسلع الغذائية التي يدخل في صناعتها وفي زيت دوار الشمس. أما غالبية السلع الأخرى، فلا تصنّف حالياً ضمن خانة الخطر الغذائي نظراً لتوافرها بالكميات اللازمة وسهولة استيرادها لغاية الآن.
التوفيق بين حاجات السوق المحلية وحاجات الصناعة الغذائية ليس أمراً سهلاً. إذ يتطلب الأمر دراسة وافية للسوق، والتوقعات ليست متوافرة لدى أي إدارة رسمية، فيما ليست هناك أرقام دقيقة يمكن الاعتماد عليها من القطاع الخاص. وفي خلاصة الاجتماعات التي عقدت بهذا الشأن في وزارة الصناعة، تبيّن أن «الإجراء الاحترازي» لا يستند إلى دراسات عن حجم الاستهلاك وتوزّعه بين الأسر والمؤسسات الصناعية. وقد بدأ الالتفات إلى هذا التمرين الإحصائي في الاجتماع الأخير الذي ضمّ وزير الصناعة جورج بوشكيان مع الصناعيين ونقابة السوبرماركات ومستوردي المواد الغذائية. تطرق النقاش إلى تصنيف السلع ذات المخاطر المرتفعة كالسكر والقمح وزيت دوار الشمس، وتحديد الكميات المتوافرة في السوق والشحنات الآتية بالتزامن مع الطلب المتوقع، خصوصاً مع اقتراب شهر رمضان. وتبيّن أن الكميات المتوافرة أو الآتية لا تعني وفراً كفيلاً بإراحة السوق، لا سيما أن الهلع والرغبة بالتموّن يتحكمّان بسلوك المستهلك، بالتالي فإن الحسابات التقليدية لحاجات السوق لا تقدّم أجوبة واضحة.
يشير نائب رئيس جمعية الصناعيين جورج نصراوي إلى أن الاجتماع الذي عقد «سمح بعرض الأمور بشكل أوضح وأدقّ بعدما قدمنا للوزير إحصائيات حول المواد الغذائية المتوافرة في السوق المحليّة، ما سمح بفك الحظر عن تصدير بعض المنتجات. إذ تبيّن بالأرقام أن مخزون هذه السلع كاف وأن هناك شحنات إضافية شارفت على الوصول إلى لبنان. نحو 60% من المواد الغذائية التي كانت ممنوعة من التصدير، فكّ عنها الحظر». لكن الضوابط ما زالت تشمل «اللحوم الطازجة والقمح ومشتقاته، وبعض أنواع الزيوت والسكر، ولكن ليس بنسبة 100% ريثما تتوافر كميات إضافية منه». وبحسب رئيس نقابة أصحاب الصناعات الغذائية منير بساط، تكمن المشكلة الفعلية في العقود الموقعة سابقاً والمنتجات المعدّة للشحن لشهر رمضان. «إذا لم تُشحن هذه البضائع سيقع الصناعيون في خسائر كبيرة. طاقة مصانعنا تكفي السوق المحليّة وتفيض. 60% من الإنتاج معدّ للتصدير، والإنتاج الذي لا يُصدّر، لا قدرة على تصريفه محلياً بسبب صغر حجم السوق الداخلية. لذا، قد نخسر الإنتاج أو نضطر لتقليصه. لا يوجد حتى اللحظة أي حلّ شامل لمسألة التصدير، بل يجري العمل بالقطعة. الوزير يحمل العصا من النصف ولا نلومه. فمن جهة يسعى لتأمين حاجة السوق المحليّة ومن جهة يحاول عدم إلحاق ضرر بالصناعيين».
رغم ذلك، فإن الأزمة الأبرز ما زالت تتمحور حول القمح وزيت دوار الشمس والسكر. الحلّ قد يكون مكلفاً على المستهلك. وفق رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي، فإن «80% من الزيت في السوق المحليّة مصدره روسيا وأوكرانيا، والنسبة الباقية كانت تؤمّن من مصر وتركيا اللتين أوقفتا التصدير أيضاً. بالتالي انقطعت إمدادات الزيت من المصادر التقليدية. حتى بقية دول العالم التي تملك مخزوناً من زيت دوار الشمس توقفت عن العرض». صحيح أن البدائل موجودة، لكن بكلفة عالية جداً، ما يعني ارتفاع الأسعار. يوضح بحصلي أنه يمكن استيراد «زيت النخيل وزيت الكوكونت وزيت الذرة وزيت الصويا، لكن أسعارها ارتفعت عالمياً بشكل كبير. المعادلة واضحة: إما تقبل بما هو موجود أو لا تحصل على الزيت». وما يزيد الأمور تعقيداً، غياب محفزات الاستيراد للتجار بسبب تذبذب أسعار الزيوت عالمياً وتغيّرها كل بضع ساعات. الفرق بين وقت شراء البضاعة وبين وقت التحميل ووقت الدفع، مشكلة كبيرة تدفع المستوردين إلى الإحجام عن الاستيراد خوفاً من تدني مفاجئ للأسعار يكبدهم خسائر كبيرة، أو ارتفاع مفاجئ يذوّب رساميلهم.
أما بالنسبة للسكر فأزمته «مرحلية بسبب النقص الذي تسبب به هلع المواطنين، إذ لا توجد أزمة سكر عالمية. وهنالك شحنات من السكر ستصل خلال الأيام المقبلة من عدة مصادر ومنها شحنات من الجزائر انطلقت قبل أن تصدر قراراً بحظر التصدير» وفقاً لنصراوي.
الثابت لدى المعنيين أن حاجة السوق المحليّة لشهر رمضان مؤمّنة، إنما الترقب يسود فترة ما بعد رمضان. وفي هذا الإطار يؤكد بحصلي أن «شهر رمضان أصبح خلفنا كقطاع تجاري. وبضاعة رمضان تباع قبل شهر من حلوله أي من الآن. لكن بالنسبة لمرحلة ما بعد رمضان لا أحد يملك جواباً. مبدئياً البدائل متوافرة والشحنات المطلوبة ستصل. لذلك لا أرى أزمة إلا في حال حصل أي أمر خارج عن المألوف».
إنما ما يشغل بال اللبنانيين هو على أساس أي سعر سيشترون السلع في ظل غياب الرقابة والتفلّت ولا سيما خلال شهر رمضان تاريخياً وفي الظروف الطبيعية؟ يجيب نصراوي بالاستناد إلى ما توصل إليه الاجتماع، «أن البضائع المتوافرة حالياً يجب أن تباع وفق سعرها الحالي. وزير الصناعة تمنى من نقيب أصحاب السوبرماركات ضبط الأسعار ومنع أي تفلت، وذلك من خلال التعاون أيضاً مع وزارة الاقتصاد ومصلحة حماية المستهلك.
هل يمكن أن يثق المستهلك بوعود أصحاب السوبرماركت للوزير؟ هل يمكن أن يثق المستهلك بوعود مستوردي الغذاء للوزير؟ أصلاً لماذا ما زالت مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد خارج نطاق مهمتها الرقابية؟ التجارب السابقة مع التجّار تجعل الثقة أمراً هامشياً في علاقاتهم مع المستهلك. مصالحهم هي الأهم. أرباحهم ورساميلهم هي الأساس. لذا، فإن ضبط الأسعار على مزاجية التجّار ومعادلاتهم الحسابية أمر خارج المنطق، فمن ستحين له الفرصة سيغتنمها لتحقيق المزيد.