"بدنا نقلك يا "بيّنا" (بيّ الكل)، مضت أسابيع ونحن ننتظر السماح لنا بزيارتك في قصر الشعب و"الوقوف على خاطرك" وإخبارك بأننا جعنا وحقوقنا هدرت وأصبحنا "على الأرض يا حكم" والجامعة اللبنانية تموت. نأمل أن تنصت إلينا، نحن أساتذة الجامعة اللبنانية المتعاقدين، قبل فوات الأوان". وماذا بعد؟
نسأل أساتذة تعاقدوا من زمان وزمان مع الجامعة اللبنانية: من أين لكم كل هذه القدرة على الإستمرار في المطالبة بالتفرغ؟ فيجيب أحدهم ببيت شعر لأحمد شوقي: "وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا، وما استعصى على قوم منال، إذا الإقدام كان لهم ركابا". إجابة إختصرت لنا عنادهم في المطالبة بحقوقٍ تُهضم في اليوم القصير مرات.
والمؤسف المبكي أنهم يبدون وكأنهم متروكون لقدرهم، فأساتذة الجامعة اللبنانية المتفرغون، الذين مروا قبلهم بنفس المعمودية والعذاب، يتصرفون وكأن الأساتذة المتعاقدين سيأخذون أشياء، إذا تفرغوا، من دربهم. هذه الذهنية الطاغية "أنا أو لا أحد" هي التي تعيق المسار وتخدم "السياسيين" وتجعلهم ينامون على حرير متجاوزين الحقوق وأصحابها.
تفرّغ على مراحل
فلندخل أكثر في التفاصيل. مرّت الأعوام وهؤلاء يطالبون بالتفرّغ. وفي لقائهم الأخير مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في حضور وزير التربية عباس الحلبي، وعدهم "دولته" بتوقيع مرسوم تفرغهم قبل نهاية شباط، وها نحن في منتصف آذار، وعلى الوعد يا كمون! وعود، وعود هذه هي الحال. واللبنانيون، على اختلاف الإنتماءات والطبقات والقطاعات، يأكلون الصفعات تباعاً.
فلنبق في ملف أساتذة الجامعة اللبنانية المتعاقدين. تردد في الكواليس ان هذا الملف قد جرى تضخيمه حيث ارتفع العدد من 730 استاذاً الى 1700 استاذ ما يُنذر، في حال تفريغهم، بإفلاس صندوق تعاضد اساتذة الجامعة اللبنانية. هذا الخبر يُقال انه من قلب الرابطة، من أساتذة كانوا متعاقدين في يوم ما، يعني تليق به مقولة: وقد طُعنت من بيت أبي! وهو ما يرفضه الأساتذة المتعاقدون بالمطلق مؤكدين ان الرقم اقل والتفرغ سيكون على مراحل، على ثلاث سنوات او أكثر، بحيث يحق لإدارة كل جامعة، بعد صدور مرسوم التفرغ، توزيع الأسماء، بحسب الأقدمية. الأمر الآخر الذي لا ينتبه إليه من يعترضون على تفرغ المتعاقدين هو أن صندوق التقاعد اصبح بلا قيمة، مثله مثل صندوق الضمان الإجتماعي، وبالتالي لا خوف عليه من المنتسبين الجدد.
نحسد هؤلاء الأساتذة المتعاقدين على إصرارهم على التفرغ في جامعة لبنانية هي حالياً في غرفة الإنعاش. هناك من يؤمنون، رغم كل الخيبات، بقيامة لبنان في يوم ما. هؤلاء هم ثروة لبنان الوحيدة. أحد هؤلاء، ممن يتشبثون بالحق في التفرغ، يتحدث عن طبقة "النبلاء والفلاحين" في البلد، "وفي أدناها يحلّ الأستاذ الجامعي"، ويستطرد بالقول "هل تتصورون أن ساعة تدريس الأستاذ الثانوي 90 ألفاً وساعة دكتور الجامعة لا تزال 60 ألفاً؟ إنهم يستعبدوننا بدل أن يكرمونا. كما يضعوننا بوجه بعضنا اليعض ليخرجوا من الموضوع كما الشعرة من العجين".
لا إمتحانات في الجامعة اللبنانية. الإمتحانات تتأجل. لا يوجد أقلام، لا كراسات ولا حتى طبشور. وهناك من دخلوا الى الجامعة اللبنانية ويتخرجون قريباً ولم يختبروا التعليم الحضوري. ويخرج من يقول: ماشي الحال! لا، الحال لا يمشي. هناك من يحاول أن يُصوّر الأمور على أنها على ما يرام، ربما كان يراهن على أموال الـ PCR التي كان لبنان يتقاضاها على أرض المطار، لكن الأموال طارت ووضع الجامعة أصبح صعباً بعدما "ذاب الثلج وبان المرج". الجامعة اللبنانية ذاهبة، بحسب أساتذتها، الى الإقفال إذا استمرّ هذا الإستلشاق في التعاطي. مصير 86 ألف طالب وطالبة لا يبدو مهماً كثيراً (ولا حتى قليلاً) في أجندة السياسيين.
والحلّ؟
الملف، بحسب أساتذة الجامعة المتعاقدين، عند رئيس الجمهورية ويقول أحدهم: "طلبت لجنة الأساتذة المتعاقدين منذ أكثر من أسبوعين موعداً من فخامة الرئيس لكن الموعد لم يُحدد حتى الآن. إتصلنا بأكثر من طرف، لكن، ما عرفناه، أن الأمور ستبقى معلقة، ولن يستقبلنا، الى حين جلاء مشكلة تعيين عمداء الجامعة اللبنانية وعددهم 19. فقد وصلت الترشيحات، ومجلس الكلية اختار خمسة مرشحين عن كل كلية، ومجلس الجامعة سيختار ثلاثة منها، على أن يرفعها الوزير ويختار مجلس الوزراء من بينها إسماً. وتغلب طبعاً على الإختيار، كما تعلمون، المحاصصة والطائفية. وهناك خلاف على اسم عميدين بين كل من التيار الوطني الحر وحركة أمل".
بالوكالة
19 عميداً من أصل 19 في الجامعة اللبنانية هم بالوكالة حالياً. وآخر مرة جرت فيها التعيينات كانت في العام 2014، ومدة ولاية العميد هي أربعة أعوام، لهذا خرجوا جميعاً وأصبحت مراكزهم إما بالوكالة أو بالإنابة أو بالتكليف والتمديد. وهناك عمداء تقاعدوا. وبات أمر مجلس العمداء بيد الوزير ورئيس الجامعة. والتعيينات، لمن يهمه الأمر، تحصل مناصفة. في كل حال، بالعودة الى الوراء ثمانية أعوام، حُلّت يومها معضلة تعيين العمداء بتنازل وليد جنبلاط عن العميد الدرزي الى المسيحيين وتحديداً الى التيار الوطني الحرّ.
ما يثير إستغراب الأساتذة المتعاقدين، الذين يواصلون الإعتصام على الطرقات، هو "أخذهم هم وكل طلاب الجامعة اللبنانية كرهائن الى حين اتفاق "الكبار" على اقتسام حصصهم من عمادة الجامعة اللبنانية. فملفهم حالياً في الأمانة العامة لمجلس الوزراء لكنهم يرفضون وضعه على جدول الأعمال. في المقابل، هناك تفريخٌ متتال لفروع الجامعات الخاصة في مقررات كل جلسة مجلس وزراء. وهناك تراخيص لاختصاصات جديدة في بعض الجامعات الخاصة. وكأنهم يريدون إنهيار الجامعة اللبنانية من أجل كسب جامعات محسوبة ملكية، بغالبيتها، على سياسيين.
الأساتذة المتعاقدون مع الجامعة اللبنانية مقهورون لكن غير يائسين. وهذا هو الأمر الأفضل في كل الموضوع. هؤلاء يتحدثون عن أنفسهم مكررين: "نحن ثلاثة أرباع أطباء في إختصاصاتنا لكننا في أدنى المستويات في التعامل والحقوق. أكبر عقد يملكه أستاذ جامعة متعاقد لا يتجاوز 350 ساعة سنوياً. فلنضرب 350 ساعة بأجر الأستاذ عن كل ساعة وقدره 65 ألفا، فيكون مجموع ما قد يتقاضاه أستاذ يعمل بأقصى قدراته سنويا، بعد حذف الضريبة، مبلغاً يتراوح بين 20 الى 25 مليون ليرة سنويا. وقد مضى عامان على كثيرين من هؤلاء الأساتذة لم يتقاضوا في خلالهما فلساً واحداً. أكثر من ذلك، الأساتذة المتفرغون تلقوا مساعدة 20 مليون ليرة سنوياً بدل إستخدام لابتوب وإنترنت، في حين إذا "خرب" كومبيوتر أستاذ متعاقد يتكبد ما يوازي جنى سنة كاملة ليحصل على واحد جديد. مع العلم أن كليهما يعطيان دروسا أونلاين".
غريبٌ أمر لبنان، وحال أهل لبنان، والملفات التي تفتح في لبنان وتوضع في الأدراج قبل أن تُحلّ وكأنها أمرٌ ثانوي! غريبٌ وعجيبٌ أن يكون مصير طلاب لبنان ليس أولوية عند من يحكمون البلاد بسلاسل يشدونها على أعناق العباد.
للتذكير، يستحقّ التفرغ، بحسب الأساتذة المتعاقدين انفسهم، 1520 اسماً، في حين أن مجموع عدد هؤلاء الأساتذة هو 3300 أستاذ، لكن يوجد بينهم 1780 اسما يعمل أصحابها في مهن أخرى، أي أنهم أطباء أو محامون أو مهندسون، وبالتالي لا يريدون هم التفرغ. في المقابل هناك 1500 أستاذ متفرغ في الجامعة اللبنانية، يعني عدد المتعاقدين يضرب باثنين مقارنة بعدد المتفرغين، وهذا لا يحصل إلا هنا، في لبنان، إذا إنه في المعيار العالمي يفترض أن تعادل نسبة المتفرغين نحو 80 في المئة من مجموع الأساتذة.
لا يرغب الأساتذة المتعاقدون في الحديث عن توزّع عددهم بين مسلمين ومسيحيين، فكلهم لديهم نفس الشكوى والقلق والهاجس والإنتظار، لكن، لمن يشاء أن يعرف هناك بين من يستحقون التفرغ نسبة 43 في المئة من المسيحيين و57 في المئة من المسلمين. هل يمكن أن يكون سبب إرجاء التفرغ هو عدم وجود توازن؟ يوم أقرّ ملف التفرغ في العام 2014 كانت نسبة المسلمين أيضا أكثر فبدلوا في الشروط من أجل حصول التوازن. لكن، لماذا عدد المسيحيين أقل مع العلم أن حملة الشهادات منهم أكثر؟ لأن في لبنان خمسة فروع للجامعة اللبنانية، يجري تنفيذ تعيين عقود المسيحيين غالباً في الفروع الثانية حصراً، مع عدد أقل في الشمال وفي زحلة، لهذا يبدو التعاقد مع الطوائف الأخرى في الفروع الأولى والثالثة والرابعة والخامسة أكثر.
ليس الأساتذة المتعاقدون وحدهم من "يأكلون الحصرم" بل إن طلاب الجامعة اللبنانية هم من يأكلون أيضا الضرب، على أمل "اللقاء القريب ببيّ الكل".