دخلت المفاوضات النووية الإيرانية في فيينا مرحلتها النهائية، حيث يستمر المبعوثون من إيران، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، في التفاوض على تفاصيل الاتفاق، وسط تحذيرات غربية من نفاذ الوقت المتبقي لتلك المفاوضات قبل أن يصبح الاتفاق الأصلي شيئاً من الماضي ويتجاوزه الزمن. وعلى الرغم من أجواء التفاؤل التي أعلنتها الولايات المتحدة عن إحراز "تقدّم كبير"، معتبرةً أنّ إمكانية إبرام اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني ممكنة "في غضون أيام" إذا أظهرت طهران "جدّية" في هذا الشأن. ويقول دبلوماسيّون مشاركون في المحادثات، إنّه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان سيتم التوصل لاتفاق بالفعل، مستشهدين بمقولة، "لن يكون هناك اتفاق شامل ما لم يتم الاتفاق على أدق التفاصيل".
المتحدّث باسم الخارجية الأميركية قال لوكالة فرانس برس: "ينبغي علينا أن نتوصّل إلى تفاهمٍ بشأن العودة المتبادلة إلى التنفيذ الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة في غضون أيام"، وشدّد على أنّ أي تأخير "يتجاوز ذلك بكثير، من شأنه أن يعرّض إمكانية العودة للاتفاق إلى خطر جسيم".
بدوره أعلن كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري كني، عبر حسابه على تويتر: "بعد أسابيع من المفاوضات المكثفة، اقتربنا من الوصول إلى اتّفاق أكثر من أي وقت آخر، ولكن لا اتّفاق على شيء ما لم يتمّ الاتّفاق على كل شيء"، وأضاف أنّ "الوقت قد حان لاتّخاذ القرار من قِبل أطراف المفاوضات"، معتبراً أنّ الأمر يعود الآن إلى "شركاء المفاوضات" لاتّخاذ "قرارات جدية"، وأكّد على ضرورة "الواقعية والامتناع عن الطلبات الإضافية، والاهتمام بتجربة الأعوام الأربعة الماضية لتحقيق هذا الهدف ".
وفيما دعا وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لو دريان، إيران أن "تقرّر في غضون أيام ما إذا كانت ستنتهز الفرصة"، قال مسؤولون آخرون إنّ اليومين المقبلين سيكونان حاسمَين، حيث يشدّد الغربيون على ضرورة الإسراع في التفاهم نظراً إلى تسارع الأنشطة النووية الإيرانية، وتقلّص المدة الزمنية التي تحتاجها طهران لإنتاج كمية من اليورانيوم العالي التخصيب كافيةً للاستخدام في إنتاج سلاحٍ ذرّي، والتي حدّدها الخبراء بنهاية شهر شباط الجاري، وإلا ستضطر واشنطن وحلفاؤها إلى اتّخاذ إجراءات مغايرة لمنع طهران من الوصول، والحصول على قنبلة نووية. وإذ تكرّر إيران على لسان المرشد الأعلى، علي خامنئي، إنّها لا تعتزم صنع أسلحة نووية، لكن القوى الغربية أشارت إلى أنّ الدولة التي وصلت إلى هذا المستوى من التخصيب (درجة نقاء 60%) طوّرت أسلحة نووية، وحيث فتح وزير المخابرات الإيراني الباب أمام هذا الاتجاه بقوله، "إنّ بلاده ستضطر إلى السعي لامتلاك أسلحة نووية إذا لم يكن هناك تخفيف للعقوبات الأميركية".
ومن بين القضايا العالقة التي لا تزال تستعصي على الحل، "رغبة طهران برفع حزمةٍ كبيرة من العقوبات تتخطى حزمة العقوبات القصوى التي فرضها الرئيس السابق، دونالد ترامب، فيما لا تزال إدارة الرئيس بايدن مصرّة على أنّ بعض العقوبات غير النووية ستظل سارية، ولا سيّما تلك المتعلقة بملفات حقوق الإنسان والإرهاب".
كما "يطالب الجانب الإيراني بضمانات قانونية تمنع أي إدارة أميركية من الانسحاب من الاتفاق النووي، وهذا ما يرى الغربيون استحالة إعطائه، نظراً لصعوبة إلزام الحكومات في المستقبل. وفيما أبدت طهران استعدادها لقبول إجراء أخف في صياغة النص تجاه هذه النقطة، مقابل أن يُسمح لها بالتخصيب بدرجة نقاء حتى 60 بالمئة مرة أخرى في حال انتهاك الولايات المتحدة للاتفاق، دعا وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى بيانٍ سياسي من قِبل الكونغرس الأميركي، والذي قد يُظهر التزام واشنطن بالاتفاق "على الأقل"، وقال: "من حيث المبدأ، لا يمكن للرأي العام في إيران أن يقبل كلمات رئيس دولة مثل أميركا كضمانة"، غير أن إدارة بايدن تصرّ على عدم قدرتها على تأمين مثل هذا الالتزام من قِبل الكونغرس الأميركي.
في سياقٍ متصل كشفت "وكالة رويترز"، في تقرير "حصري"، نقلاً عن ثلاثة دبلوماسيين مطّلعين على المفاوضات، "إنّ اتفاقاً أميركياً - إيرانياً في طور التكوين لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015 يرسم خطوات متبادلة من الجانبين على مراحل وصولاً إلى الامتثال الكامل. وأولى هذه الخطوات لا تتضمن إعفاءات من عقوبات النفط، بحسب المسودة التي حصلت عليها الوكالة.
ويقول الدبلوماسيون إنّ قسماً كبيراً من نص المسودة تمّت تسويته، لكن بعض القضايا الشائكة ما زالت قائمة، وأنّ الهدف العام يتمثّل في العودة إلى الاتفاق الأصلي الذي يقايض رفع العقوبات، بما فيها قيود تقلّص مبيعات النفط المهمّة لإيران مقابل فرض قيود على أنشطتها النووية.
وبحسب الوكالة، تنصّ مسودة الاتفاق التي يزيد طولها عن 20 صفحة، على مجموعة من الخطوات واجبة التنفيذ بمجرد إقرارها، بدءاً بمرحلةٍ تتضمن تعليق إيران للتخصيب فوق 5 بالمئة، بينما حدّت اتفاقية 2015 تخصيب اليورانيوم عند درجة نقاء 3.67 بالمئة، تقوم إيران الآن بالتخصيب لما يصل إلى 60 بالمئة، وهو حد قريب من المستوى المطلوب لصنع الأسلحة.
ويتضمن النص أيضاً إشارات إلى إجراءات أخرى تشمل رفع التجميد عن حوالي 7 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمّدة في البنوك الكورية الجنوبية بموجب عقوبات أميركية، بالإضافة إلى إطلاق سراح سجناء غربيين محتجزين في إيران، وهو إجراءٌ يشير إليه كبير المفاوضين الأميركيين روبرت مالي، باعتباره شرطاً لإبرام الاتفاق.
وأشارت الوكالة إلى أنّه "بمجرد تنفيذ هذه المجموعة الأولية من الإجراءات والتأكّد منها، تبدأ المرحلة الرئيسية لرفع العقوبات، وتبلغ ذروتها عند ما يسمّيه الدبلوماسيّون بيوم إعادة التطبيق. وتقدّر المدّة الزمنية الفاصلة بين يوم توقيع الاتفاق حتى يوم إعادة التطبيق بما يتراوح بين شهر واحد وثلاثة أشهر، والذي ستعود فيه إيران إلى الحدود الأساسية للتخصيب عند درجة نقاء 3.67 بالمئة كحد أقصى.
ومثلما كان الحال في الاتفاق الأصلي، قالت الوكالة "إنّ الاتّفاق الجديد يستلزم أن تمنح الولايات المتحدة قطاع النفط الإيراني إعفاءات من العقوبات المفروضة عليه، وليس رفعها تماماً بل يستلزم تجديد الإعفاءات كل بضعة أشهر".
من جهتها لم تتأخر إيران في الرد على تقرير رويترز عبر مستشار الوفد الإيراني محمد مرندي، حيث قال في تغريدة على حسابه في تويتر: "تقرير رويترز لا يتمتع بالمصداقية، وعندما يكتمل الاتفاق سيدرك الجميع حجم الأخطاء فيه".
وبالتزامن مع تقدّم المفاوضات تستمر إسرائيل في هجماتها المتنوّعة على المواقع الإيرانية على طول الخط من سوريا إلى طهران، كما تكرّر خطابها السياسي بضرورة التوصّل إلى اتفاقٍ يمنع إيران من امتلاك القدرات النووية إلى جانب فرض قيود على تطوير منظومة الصواريخ البالستية، ومنع التموضع في سوريا، ومنع نقل أسلحة تغيّر التوازن إلى حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة، والتوقّف عن السعي في نشر الإرهاب، وأنّه في حال عدم تحقّق ذلك، فإنّ إسرائيل معنيّة بإعداد خطة تشمل خياراً عسكرياً فعالاً من أجل تحقيق أهدافها، وحشد أكبر عددٍ من الدول من أجل محاصرة المشروع الإيراني. كما تنطلق الخطة الإسرائيلية بضرورة مواجهة إيران على جبهات أخرى، وعدم حصر التهديد الإيراني في الملف النووي فحسب، وإنمّا في ممارساتها العدوانية في المنطقة أيضاً.
ويبقى التساؤل الإسرائيلي استراتيجياً وسياسياً: ما هو المضمون الملزم؟ وما هي مساحات المراوغة الإيرانية المعتادة في مراحل التفاوض التالية، حيث ستظل إسرائيل تبحث في خياراتها، ولن تذهب لمواجهة عسكرية إلّا بعد أن تقدّر خسائرها قبل مكاسبها، ما يعني أن إسرائيل التي ترفض العودة للاتفاق الأصلي دون تعديل لأنّه يمكّن إيران من بناء القنبلة النووية في فترة زمنية أطول، خاصة مع عدم حظر أنشطة البحث والتطوير الخاصة بأجهزة الطرد المركزي المخصّصة لتخصيب اليورانيوم، سوف يمنح إسرائيل أيضاً فرصة استمرار سياسة تقويض التطور النووي من الداخل، خاصةً وأنّ قيوداً كثيرة على البرنامج النووي الإيراني في ظل الاتفاق النووي ستضيق مع الوقت وصولاً إلى عام 2025، سيّما وأنّ العلاقة الأميركية - الإسرائيلية التي تشكّل ورقة ضغط مهمة لواشنطن على إيران، فإنّها أيضاً تمنع تحوّل الصراع الإيراني - الإسرائيلي إلى حربٍ مفتوحة، حيث تعمل إسرائيل على توظيف الضوء الأخضر الممنوح لها لمهاجمة المصالح الإيرانية، والوكلاء في المنطقة دون ضوابط.
في خلاصة الأمر فإنّ إسرائيل التي تشارك الأطراف الغربية سياسة الضغط على إيران، وتشاركهم أيضاً مخاوفهم من استمرار طهران في كسب الوقت التفاوضي لدفع برنامجها النووي إلى الأمام إذا ما استمرت على هذا المنوال، حيث لم تعد بعيدة عن الارتقاء إلى العتبة النووية، حيث يتناقص كثيراً الوقت اللازم الذي تحتاجه للوصول إلى السلاح النووي.
لذلك يعتقد العديد من الخبراء أنّ طهران تستغل إلى حدٍ ما رغبة الإدارة الأميركية القوية بالتوصّل إلى اتفاقٍ من أجل الحصول على مزيدٍ من التنازلات، وترفض التقيّد بأي فترة زمنية للتفاوض، لأنّ الورقة الزمنية باتت ورقة تفاوضية أيضاً، لا بل ورقةً ضاغطة على المفاوضين الغربيين.